مليشيا الدعم السريع تحول القصر إلى ثكنة عسكرية

الخرطوم: الهضيبي يس
يعد القصر الرئاسي في العاصمة السودانية الخرطوم أحد أبرز معالم السيادة الوطنية، والمقر الرسمي لرئاسة الجمهورية. فهو يضم مكاتب أعضاء مجلس السيادة وإدارات رئاسة الجمهورية، وقد صُمّم على غرار البنايات الكبيرة في أوروبا خلال القرن السابع عشر، مع لمسات معمارية مستوحاة من الطراز الشرق أوسطي والروماني والإغريقي.
المعارك وتأثيرها على القصر الرئاسي:
في ظل المعارك الأخيرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في محيط القصر الرئاسي القديم بالخرطوم، برزت مخاوف بشأن سلامة مبانيه ومحتوياته، حيث حذرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) من خطورة الوضع، مؤكدة على ضرورة “حماية الآثار السودانية”، مع توصيات بالحصول على تمويل لهذا الغرض. وبعد معارك امتدت لساعات، نجحت قوات الجيش السوداني في فرض سيطرتها على جسر المك نمر وسط الخرطوم، وذلك عقب التحام بين قوات الجيش في منطقتي أم درمان وبحري، مما عزز استراتيجيته العسكرية في الانفتاح نحو وسط الخرطوم. وقد بدأ ذلك من فك الحصار عن القيادة العامة، والتمدد جنوبًا نحو أحياء جبرة، الرميلة، الشجرة، والسوق العربي، إضافة إلى التحرك شرقًا نحو منطقة شرق النيل، مما يعزز فرضية دخول الجيش إلى القصر الرئاسي.
الرمزية التاريخية والمقتنيات الأثرية:
بحسب خبير المتاحف والتاريخ جمال الدين زين العابدين، فإن بعض مقتنيات القصر تعرضت للنهب أو لأضرار متفاوتة، من بينها سيارات تعود إلى حقبة الاستعمار البريطاني، ومقتنيات تخص حكامًا بريطانيين وسودانيين سابقين.
وتُعد حدائق القصر من المنشآت ذات القيمة التاريخية والجمالية الكبيرة، حيث جلب اللورد البريطاني هربرت كتشنر عام 1903 أنواعًا مختلفة من الأزهار والأشجار النادرة، بعد قيادته حملة إعادة استعمار السودان عام 1898.
وفي الطرف الغربي للحديقة، يوجد مبنى صغير مكث فيه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر وزوجته تحية خلال زيارتهما للعاصمة السودانية في ستينيات القرن الماضي. كما يضم متحف السيارات سيارات تاريخية، منها:
• عربة استقلتها الملكة إليزابيث الثانية في بداية الستينيات.
• عربة الملك فيصل بن عبد العزيز خلال زيارته للسودان عام 1967.
• عربة الرئيس جمال عبد الناصر التي استخدمها خلال قمة اللاءات الثلاث بالخرطوم عام 1967.
• سيارة الحاكم العام البريطاني التي تعود إلى منتصف ثلاثينيات القرن العشرين.
القصر الرئاسي بين الماضي والحاضر:
يعود تاريخ القصر الرئاسي القديم إلى عام 1821، حيث ظل مقرًا للحكم حتى استقلال السودان، ليصبح مكتبًا رسميًا للرؤساء المتعاقبين، باستثناء الفريق إبراهيم عبود (1958–1964) الذي اتخذه مقرًا لإقامته.
وفي عام 2015، تم بناء قصر جديد تبلغ مساحته 5,300 متر مربع في الفناء الشرقي للقصر القديم، دون الاستغناء عن المبنى التاريخي، حيث لا يزال يضم مكاتب بعض أعضاء مجلس السيادة، كما يستضيف الاحتفال السنوي بعيد الاستقلال في الأول من يناير.
ووفقًا لتقرير صادر عن يونسكو في السودان، فإن القصر الرئاسي يُعد من المباني التاريخية المهمة للفترة الاستعمارية، وهو جزء من التراث التاريخي الحديث للسودان، ويحميه قانون الآثار لعام 1999.
الموقع الاستراتيجي للقصر:
يقع القصر الرئاسي في موقع استراتيجي، حيث يتوسط العاصمة، ما يجعله قريبًا من المدن الثلاث: الخرطوم، بحري، وأم درمان. ويحده من:
• الشمال: شارع النيل.
• الجنوب: شارع الجامعة، الذي تعبره وسائل النقل العام.
• الشرق: شارع أبو سن.
• الغرب: شارع مهيرة.
كما توجد بجواره عدد من البنايات الحكومية، وفي ركنه الشرقي وحدة الحرس الجمهوري، المكلفة بحماية القصر وساكنيه.
× البعد التاريخي للقصر الرئاسي:
نقل العثمانيون مقر العاصمة السودانية من سنار إلى مدني بعد فتح السودان عام 1821، لكنهم لم يمكثوا فيها سوى أربع سنوات قبل أن ينقلوا العاصمة إلى الخرطوم عام 1825، نظرًا لسهولة الملاحة النهرية هناك، ولتفادي انتشار البعوض في مدني.
وضع حجر الأساس للقصر الرئاسي عام 1825 على يد الحكمدار محو بك أورفلي، وكان أول بنائه بالطين على شكل مستطيل ليكون مقرًا للحاكم. لاحقًا، أعاد الحكمدار عبد اللطيف باشا عبد الله تشييده عام 1851 باستخدام الطوب الأحمر المستخرج من بقايا مدينة سوبا الأثرية.
بعد الثورة المهدية، نقلت العاصمة إلى أم درمان، حيث بنى الخليفة عبد الله التعايشي “بيت الخليفة”، ليكون مقر الحكم حتى قدوم الاستعمار البريطاني المصري.
في عام 1899، أعاد الجنرال هربرت كتشنر نقل العاصمة إلى الخرطوم، وشرع في بناء القصر الجمهوري على أنقاض قصر الحكمدارية، وهو ما أكمله لاحقًا الحاكم العام فرانسيس ريغنالد ونغيت عام 1906.
يحمل القصر طابع الطراز الأوروبي في القرن السابع عشر، مع بوابات وشرفات ذات لمسة شرق أوسطية، وبُني بالطوب الأحمر والحجر الرملي.
القصر الجديد وتداعيات الحرب:
في عام 2015، أُضيف مبنى جديد للقصر الرئاسي بتصميم مستوحى من القصر القديم، بتمويل صيني، ليضم طابقًا أرضيًا وطابقين علويين، و10 قاعات، 3 أجنحة، 14 مصعدًا، ومضافة رسمية للملوك والرؤساء.
وفي أعقاب اندلاع حرب 15 أبريل 2023، حولت مليشيا الدعم السريع القصر إلى ثكنة عسكرية، مما أفقده قيمته الثقافية والاجتماعية ورمزيته السياسية. وندد جمال الدين زين العابدين بهذه الخطوة، مطالبًا المجتمع الدولي بمحاسبة من تورطوا في نهب ممتلكات القصر وتشويه هويته التاريخية.
استعادة السيادة الوطنية:
من جانبه، أكد اللواء معتصم عبد القادر الحسن، المستشار بالأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية، أن استعادة الجيش للقصر تعني استعادة رمزية الحكم والسيادة الوطنية، وهو ما يمثل دفعة معنوية كبيرة للقوات المسلحة والشعب السوداني، في ظل محاولات المتمردين تقويض هيبة الدولة والنيل من مؤسساتها السيادية.
ختامًا:
يبقى القصر الرئاسي رمزًا تاريخيًا وسياسيًا هامًا للسودان، وشاهدًا على محطات مفصلية في تاريخه. وعلى الرغم من المخاطر التي واجهها خلال النزاع المسلح، إلا أن استعادته تمثل استعادة للسيادة الوطنية، ورسالة قوية بأن السودان ماضٍ نحو حماية إرثه التاريخي والدفاع عن استقلاله.