أرفع رأسك وحطم كأسك فأنت سوداني

× مثلما أكرمني الله سبحانه وتعالى بالعمل في مجال الإعلام، فقد ابتلاني به أيضًا، والحمد لله على كرمه وابتلائه.
× عملتُ في ثلاثية الإعلام الشهيرة: الصحافة، والإذاعة، والتلفزيون، بل وُفِّقتُ لأن تكون لي صحيفة وإذاعة وقناة فضائية قبل أن تذهب جميعها بفعل النكبة أدراج الرياح.
× لستُ نادمًا على فقدان المباني والأجهزة والسيارات والأثاث، فقد كان هذا حال الملايين من أهل السودان، لكنني نادمٌ وحزين على فقدان أكبر مكتبة صوتية ومرئية، وكتب ولوحات نادرة، وأجهزة عريقة، وتحف ثمينة، بذلتُ في سبيلها عمري ومالي وموهبتي. ولا أعلم أين ذهبت حين اكتسح الغزاة مقار عملي الإعلامي ومنزلي.
× العمل في الإعلام يتيح لك زادًا ضخمًا من المعلومات والأخبار والحكايات والأسرار، ما لا يتاح لغيرك ولا حتى لمؤسسات متخصصة.
وعندما أختلي بنفسي، تمر في خاطري العديد من الحكايات التي تستحق التدوين والنشر.
× (إن الجريمة لا تفيد) من بين هذه المواقف الإعلامية، طاف بذهني اجتماع مشهود مع قسم الحوادث والقضايا في صحيفة (ألوان)، وهو فريق صغير من الصحفيين والصحفيات النشطين والأذكياء.
للسودانيين عشق خاص لصفحة الحوادث والقضايا والمحاكم، ففيها القصص والمواعظ والعِبر. في ذلك الاجتماع، اقترحتُ عليهم أن نخرج من رتابة التوصيف إلى سبر أغوار الأحداث، مؤكدًا أن الجريمة، إلى جانب كونها إثمًا وخطيئة، فهي أيضًا مرض يصيب القلوب والأجساد.
× طرحتُ عليهم شعارًا جديدًا للصفحة: (إن الجريمة لا تفيد)، كما اقترحت بابًا بعنوان (جريمة الأسبوع)، حيث تُكتب الحكاية بأسلوب يجمع بين السرد والموعظة والاعتبار. كذلك، طرحت فكرة (اعترافات التائبين)، لأن التوبة حين يدلي بها صاحبها، تتحول إلى عبرة للآخرين، وتظهر بشاعة الجريمة ولطف العودة إلى الله والمجتمع.
× للأسف، لم يستمر هذا الباب طويلًا، إذ اعتذر لي المحررون بأنهم لا يعرفون التائبين ولا أهل الخطايا! رغم ذلك، أحدثت الفكرة ضجةً واسعة، وأصبحت محط اهتمام القراء. حتى أنني فوجئتُ بعدد من الأشخاص يأتون إلى مكتبي سرًا، ليُدلوا باعترافات عن تجاربهم مع الجريمة ثم توبتهم، وكانت قصصهم مثيرة، بعضها يدعو للحزن، وبعضها للأسى، وبعضها للدهشة، وأخرى للسخرية أو العبرة والاعتبار.
× قصة المعلم والتوبة
ما زالت في ذاكرتي حكاية مؤثرة لرجل زارني ذات مساء، بعدما قرأ دعوة الصحيفة للاعترافات. كان رجلًا ذا حضور وذكاء ووسامة، رغم أنه شارف على الستين. قال لي دون مقدمات: (لقد تخرجتُ من معهد المعلمين العالي في الستينيات، معلمًا للفيزياء. كان المعهد آنذاك أميز المؤسسات التعليمية في العالم العربي والأفريقي، حيث كان يمنح الطلاب راتبًا شهريًا، ما جعل كثيرين من طلاب جامعة الخرطوم يستقيلون للالتحاق به. كنت أعمل وأُعيل أسرتي من هذا الراتب).
× انتقل هذا المعلم للعمل في نيجيريا ضمن بعثة تعليمية، وهناك، رغم كونه (وَد بلد)، كما يقول، لم يكن ملتزمًا بتقاليد الإسلام، لكنه كان يشعر في قرارة نفسه بأنه على خير، لأنه لم يكن يؤذي أحدًا أو يتعدى على حقوق الآخرين.
× إلى أن جاء ذلك اليوم الذي غيّر حياته. (في أحد أيام الجمعة، نهضتُ متثاقلًا، دون أن تخطر الصلاة على بالي. ارتديتُ جلبابًا أبيض، وعمامة، وشالًا، ومركوبًا فاخرًا، وذهبتُ لتناول الغداء في مطعم كنتُ أرتاده. بعد الطعام، طلبتُ من النادل كأسًا من الويسكي المعتّق، لكنه تجاهل طلبي. ألححتُ عليه، لكنه أجابني بلهجة غريبة: ’لن أقدم لك هذا الطلب، حتى لو فقدتُ وظيفتي!‘”
سأله المعلم غاضبًا عن السبب، فأجابه النادل:
“لأنك سوداني.”

بُهت الرجل وسأله كيف عرف أنه سوداني، فردّ النادل بثقة: “هذا الزي الحبيب هو رمز الطهر والبركة والإسلام عندنا.”
× يقول المعلم: “أصابني حياء شديد من إجابة الفتى. شعرتُ بالخجل وكأنني عارٍ أمام الحقيقة. نهضتُ من فوري وذهبتُ إلى غرفتي، وهناك انخرطتُ في موجة من البكاء العميق، وكأن دموعي كانت تغسل ذنوبي. في صلاة المغرب، كنتُ في الصف الأول، ومنذ ذلك اليوم، لم أُفارق المسجد.”
× اليوم، هذا الرجل حافظٌ لكتاب الله، وإمامٌ لمسجد الحي، وما زال يحتفظ بجلبابه، وشاله، وعمامته، ومركوبه في حقيبة خاصة، في ركن قصي، لا يسمح لأحد بلمسها.
× يقول: “هذه الثياب كانت سبب هدايتي، وفضلُ الله عليّ عظيم. دائمًا ما أبعث شكري وامتناني للشعب النيجيري، ولهذا الجرسون الداعية، الذي قادني بفعلته هذه من الغفلة إلى الرشد.”
× بيت القصيد، رسالتي إلى شباب السودان الناهض، في سوداننا القادم المنتصر الجديد:
ارفعوا رؤوسكم وحطموا كؤوسكم، فقد أضاعت مغيبات العقل الكثير من شبابنا، من التدخين والمخدرات إلى الخمور والمسكرات، حتى صاروا كالأزهار الذابلة، حقلًا من الحشائش اليابسة التي يطؤها الناس وتذروها الرياح.