حكاية سمراء في أيام الحرب والحب والسياسة

المشهد الأول:

كان لي زعم قديم منذ أن امتهنت العمل الإعلامي في مجال الصوت والصورة والكتابة، مفاده أن الأفراد والأشخاص في نهاية الاستقصاء بمفرداتهم الحياتية وتجاربهم وأسرارهم يشكلون دولة بحالها. بل كان لي زعم بأن أي فرد فينا في داخله دولة كاملة وتشكيل وزاري مخبوء، وكذلك كل عائلة وكل حارة وكل مجتمع وكل مؤسسة تشكل في نهاية أمرها دولة قبل أن تنتقل للشكل المتكامل من السلطة المتعارف عليها بالدولة الوطنية والقطرية.
وفي ظني الموثوق أن أحوال الناس وحكاياتهم وتجاربهم وأسرارهم يمكن أن نتصعد بها حتى تصبح وجهاً من النصيحة العامة للراعي والرعية والسلطة والدولة، بل كنت أتوسع في أكثر من ذلك حين كنت أدعي باخلاص بأن أي فرد فينا بداخله وزارة للدفاع وأخرى للداخلية ومالية ووزارة للتربية والتعليم وأخرى للإرشاد والاعلام والشؤون الاجتماعية. ومن الجزئيات المهمة لإكمال النظرية فإن كان لك وظيفة بدخل محدود أو مفتوح فتصبح حينها وزيرا للمالية. وإن كان لك زوجة وأبناء وأقارب ومجتمع مهني وأصدقاء فأنت وزير للشؤون الاجتماعية. وإن كنت تهتم بالقراءة والكتابة والاستماع والمشاهدة والسينما والمسرح والأخبار والمنتديات فأنت وزير للثقافة والاعلام. ويمكنك عزيزي القارئ أن تكمل التشكيل الوزاري فيك حسب المؤهل والوظيفة والاهتمامات والدور الاجتماعي والوطني، وأن لا تغفلوا في هذا التشكيل الوزاري الشخصي وزارة الدفاع والداخلية والمخابرات والأمن الوطني والزراعة والمعادن والبيئة. وإذا انتقلنا إلى مستوى أعلى وأدخلنا العائلة فإن الرجل يصبح رئيسا للجمهورية بقوامة الإنفاق (لاحظوا انني قلت الرجل ولم أقل الذكر) وتصبح المرأة الوالدة رئيسا للوزراء وتتوزع الوزارات على البناء حسب الكفاءة والتخصص والتجارب والميول، فالطبيبة تصبح وزيرا للصحة، والمصرفي وزيرا للمالية والتخطيط والرياضي وزيرا للشباب والرياضة. ويجب أن يكون هذا منهجا لحياة الناس سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وظل زعمي هذا قائما حتى اليوم فقد كنت منتبها لأهمية كل حكاية شخصية تردني بصدق الاعتراف والتدبر والإقتداء. حتى أنني درجت في عدد الخميس من كل أسبوع في صحيفة ألوان أن أكتب حكاية سودانية عرفتها وعايشتها. وعندما واظبت على توثيقها وكتابتها بذاك الترتيب والإصرار كانت تصلني حتي باب مكتبي الكثير من الحكايات والروايات الشخصية الحقيقية إما مكتوبة أو بالمهاتفة أو يقابلني أبطالها كفاحا كما يقول السادة الصوفية في تقريب المشاهدة والحضور. وحفاظا على أسرار الناس والبيوت فقد كنت أخفي الأسماء والزمان والمكان وأعمل قلمي بالصدق الفني بديلا للصدق الواقعي. وفي كل حكاية اختارها تطل الكثير من المباني والمعاني والنصائح الهادية. وقد أكسبني فن الاستماع والاصغاء لهذه الروايات والتجارب دربة على الاستذكار للشخص وقصته الواقعية خاصة أن لي ولع وشغف بالتاريخ والأبطال والأحداث والبداية والنهاية والرجال الذين يصنعون الحياة فكرا وثقافة وتاريخا وأمجاد.

 المشهد الثاني:

من الحكايات السمراء المؤثرة والموحية التي مرت بخاطري حكاية صديقنا ود العمدة فرغم خصوصيتها فإنها تتصاعد لتبقى مؤشرا مفتاحيا وتنبيها لحياتنا الآنية بكل عتمتها وضيائها وتدبرا معرفيا لنكبتنا الحالية التي نتخبط فيها هذه الأيام ليل نهار. كنت في أيام الطلب بالجامعة كثير الأصحاب والأصدقاء وكنت أختارهم دون اعتبار للخلافات السياسية والاجتماعية والإثنية. وكانت هذه بذرة قديمة ومباركة لحزب السودانيين الذي فكرت فيه مرارا. صحيح ان العمر والتجربة والداء والعثرات لم يسمحوا لي بأن أطلقه حزبا سياسيا مسجلا، فهذا لعمري شأن يحتاج لمدافعة ومنافحة وشباب وعنفوان (ومعافرة ومدافرة). ورغم ذهاب التكوين المؤسسي لهذا الحزب أدراج الرياح إلا أن فكرته النبيلة يمكن أن تكون بمبدئيتها وبرنامجها النظري والعملي عابرة لكل الأحزاب والتكوينات السياسية والطوائف والتجمعات والتحالفات. وعندي احساس عميق اننا مهما اختلفنا فإننا كشعب وأمة وما يجمعنا من ثوابت وأفكار وبرامج وأخلاقيات وثقافة وفنون ورضى وتراضي يجعل منا حزبا واحدا وتحالفا سياسيا وعقدا اجتماعيا متفق عليه وجديد.
وحتى لا نغرق في التجريد والتنظير والإدعاءات والنيات الطيبة فدعوني أدلف للحكاية السمراء التي وعدتكم بها تخفيفا من وطأة الواقع السياسي الغليظ الذي تعيشه قال الشاهد ان زميلنا وصديقنا ود العمدة كان وسيما قسيما، وكان أطولنا قامة وأكثرنا بذلا وحبا للخير للناس وعلى خلق وكرم وشجاعة وكان شاعرا ومؤانساً لا يمل، وكان من الطلاب المتفق عليهم حتى انني فكرت كثيرا في تجنيده سياسيا. لكن كان يهرب من دعوتي بلطف ويقول لي: يا حسين أنا من حزب السودانيين وفي قلبي من كل تكوين سياسي وفكرة قطرة وعطر ومساحة ونصيب فخلي بيني وبين الناس. ومن الحوافز التي كنت أقدمها له استدراجا للاستقطاب قولي بأن الالتزام للاتجاه الاسلامي لن يمنعك من الرحلات ولا من الشعر ولا من الموسيقى ولا من الغناء ولا من المدايح ولا من حب الجميلات الذي يفضي إلى الزواج. وقد صدق الامام الشهيد حسن البنا حين قال ”ان الحب الحلال، حلال وان الحب الحرام، حرام، ولن تندم يا ود العمدة فنحن من أمة كان رسولها يحب العطر والنساء وجعلت قرة عينه في الصلاة. كان بعد مرافعتي المتكررة يضحك طويلا ويقول لي ”ان الذي بيني وبينك عامر وان الذي بيني وبين الالتزام تراب“. ورغم تباعد الخطى والسنوات والأيام والليالى ظل الرجل قريبا إلى القلب والعقل والصلات بأهله الطيبين وأسرته الكريمة. ويستمر التداعي في حكاية ود العمدة الاسم الاصطلاحي حتى لا يصيبه الرشاش ورأس الصوت، في السنة الثالثة في الجامعة ونحن علي مقربة من عام التخرج ارتبط ود العمدة في علاقة حب عفيفة بطالبة برلومة شديدة وضاءة الطلة، شديدة تواضع الهندام حيث يبدو الفقر بائناً في ملامحها ورغم ذلك لم يستطع أن يخفي حسنها الفياض. كانت طالبة بلا مساحيق وثيابها فوق الرثة بقليل، شديدة الخفر والبساطة. وكان والد ود العمدة من أصحاب المزارع الكبيرة والتجارة التقليدية الوافرة. وكان ينفق على إبنه بسخاء وكان يعد من أثرياء الطلاب بالجامعة على قلتهم. قامت علاقة بريئة بينه وبين هذه الطالبة وكانت علاقة جادة، وتطورت العلاقة من هذا الحب البرئ لإلتزام عبر إلى الخطوبة بثبات وأصبح ينفق عليها ببذخ باعتبار أنها عاجلا أو آجلا ستصبح صنو روحه وشريكة حياته وزوجته القادمة. وجميعنا كنا نعرف ذلك ونتوقع إطلالة اليوم السعيد. ونتيجة لهذا الانفاق المبذول بلا منٍ ولا أذى ولا شح ولا اقتار تحولت الي واحدة من أبرز أنيقات الجامعة ثيابا وطلة. لم يكن أحد منا أو أي فرد في هذه الشلة مهما ساء ظنه أن هذه العلاقة سوف تنهار بين ليلة وضحاها.

 المشهد الثالث:

عند أهلنا في السودان عبارة مشهورة حين يتبدل الرجل أو المرأة من فقر إلى ترف ومن حال إلى حال ”فلان أو فلانة عجبته روحه“ ويبدو أن البرلومة الفقيرة أعجبت بنفسها من وراء حجاب فقد كانت دهشة الشلة والجامعة عظيمة ومزلزلة حين علمنا بلا مقدمات أن الجميلة الجاحدة قد تم عقد قرانها برجل أعمال شاب واسع الثراء ومن أسرة كبيرة وشهيرة. ودائما ما تحدث مثل هذه الفواجع الشخصية في بلادنا ورغم مرارة الفقد لأبطالها إلا أنها غالباً ما تثمر أشعاراً وقصائد وأدبا وأقاصيص، إلا أن ود العمدة كان جرحه غائراً وقد أصابته الحادثة في مقتل فإنهار تماماً رغم صلابته المعهودة، وقد خاف عليه الجميع من الذهول والجنون والانتحار، وحينها أعلنا حالة الطوارئ القصوى لإنقاذ صديق الغفلة والانتباه وبمدد من القرب والنصائح والمأثورات والأشعار والأغنيات وما أكثرها في التراث العربي والعالمي والسوداني. ومن ما ظل في ذاكرتي وكراستي من أدب المواساة والتعزية
قالوا ذهبت
قلت فلتذهب
فهي ليست أكثر خلوداً من المذابح والحضارات
وقد ساهم صاحبنا المهل ود الشكري بكثير من الأشعار الشعبية والدوبيت مازلت أذكر منها أبيات ود الفراش قادحا خصومة محبوبته ”الدون“ التي تنكرت له رغم عطائه وكرمه وهداياه الثمينة:
بعد ما كنتي زينة
بفاشيبك بنات عرب الجهينة
غيرتي المحبة بقيتي شينة
تشابهي العشرة في وسط الجنينة

من أكثر النصوص التي تأثر بها وتأثرت بها تسجيل عميق لود الأمين الباش كاتب وما أصدق أبناء الجزيرة حينما يتغنون بصدق للذكريات والفواجع والمواجع والمدامع والحزن النبيل. كانت يومها التسجيلات نادرة والأجهزة قبل الميديا المعاصرة أكثر ندرة، حيث تغنى ود الأمين بالفصيح برائعة الشاعر المتعدد الآفاق والروئ والبذخ بالتمرد والرسم بالكلمات نزار قباني وقصيدة طائشة الضفائر:

لقد أخطأتِ حين ظننت أني أبيع رجولتي وأذل نفسي
فأكبر من جمالك كبريائي
وأعنف من لظى شفتيك بأسي

أقاسية الوصال إلي ردي
لهيب عواطفي وجحيم حسي
لقد دمرت أيامي وعمري
فجفت دمعتي وانبح همسي
أعيديني إلى أصلي جميلاً
فمهما كنت أجمل منك نفسي

وقد عجبت جداً أن ود الأمين لم يحتفي بهذا النص كثيرا في تجربته الفنية وأصبحت معلقة فقط في قلوب الذين يحبون صادق وجميل الغناء ومحبي أغنيات القضية. ومن العبارات التي كان يحتفي بها ود العمدة جدا في أيام النقاهة النفسية أبيات عباس بن الأحنف

يا أيها الرجل المعذب قلبه
اقصر فان شفاءك الاقصار
من ذا يعيرك عينه تبكي بها
أرأيت عينا للبكاء تعار

وقد ضجت شلة الجامعة يوما بضحكات مجلجلة حين رفع ود العمدة عقيرته هاتفاً إذ رأى حبيبة الأمس العطرة المخضبة وهي تمتطي المرسيدس في موديلها الأخير ” حدقوا أيها الأصحاب ومارسوا الصبر والصمت الجميل فتلك حبيبتي تخونني مع زوجها“

 إضاءة:

ألم أقل لك عزيزي القارئ ان حكايات الأفراد تشابه حكايات الدول والأقطار ”حدقوا أيها الناس ومارسوا الصبر والصمت الجميل فإن تلك الثلة المأجورة تخونكم مع أسيادها في سوق النخاسة السياسية والعمالة بدراهم معدودات“.