د. ياسر يوسف يكتب: ثم ماذا بعد تحرير الخرطوم.. التفكير جهرا

ثم ماذا بعد تحرير الخرطوم.. التفكير جهرا

د. ياسر يوسف إبراهيم

لم يكن بالإمكان كتابة مثل هذا المقال لولا التضحيات التي قدمتها القوات المسلحة والمستنفرين والقوات المستركة وكل السودانيين الذين اصطفوا خلف جيشهم في كل لحظات معركة الكرامة بكل تقلباتها ومحطات فصولها القاسية والمؤلمة التي تخضبت بالدم والدموع حتي تكللت المسيرة بالإنتصارات العظيمة والبطولات الماجدة…
وبطبيعة الحرب الشاملة التي إستهدفت السودانيين في جميع مجالات حياتهم وحاولت تعطيل مسيرة التاريخ وتدمير الإنتاج و سائله ، تأثر الفضاء المدني عموما في السودان وفي مقدمته تراجع الدور الذي يفترض أن تلعبه الأحزاب السياسية في واحدة من أشد مراحل السودان خطورة وصعوبة، بل أضافت الحرب تحديات جديدة لمشاكل مزمنة كانت تعاني منها الأحزاب، ومع المبادرات التي بدأت تظهر في الساحة السياسية تبرز جملة من الأسئلة الجوهرية التي تحتاج إلى نقاش عميق وواسع، من أجل أن يستوي البناء هذه المرة علي أسس متينة وقواعد صلبة تتجاوز إخغاقات الماضي وأخطاءه الجسام. ولكن يجب أولا التذكير بأن الحرب لم ولن نتهي بتحرير الخرطوم، فليست تلك إلا مرحلة من مراحل الحرب تتلوها مراحل أخري لا تقل أهمية وهي التحرير الشامل لكردفان ودارفور ويجب أن تكون بذات وتيرة الإهتمام والدعم والمساندة، ثم العمل علي عودة النازحين واللاجئين وإستعادة الدولة وتشغيل مؤسساتها الخدمية والأمنية.
وقبل أن نقفز إلى محطة المشاركة السياسية للأحزاب وكيفيتها وتوقيتها ينبغي علينا التدارس والتفاكر حول القضايا المركزية التي يجب التركيز عليها، وعلي الأخطاء التي يجب تلافيها، والسلبيات التي يجب تجاوزها،
لقد ظلت السياسة السودانية تدور حول نقطة الفشل منذ الإستقلال، ما أن نتحرك خطوة نحو الأمام حتي نعود خطوات للوراء، وما الحرب الحالية إلا محطة من محطات الفشل الوطني في صياغة رؤية جامعة للتعايش والبناء، والتي كانت نتيجتها إنفصال جنوب السودان وإستمرار الحرب في دارفور وبعض أطراف السودان، حتي ليتساءل المرء لماذا تستمر الحروب والنزاعات عندنا بهذه الوتيرة والديمومة، ولماذا فشلنا في إيجاد صيغة للتعايش السلمي المشترك؟
إن أي تجاوز لهذه الأسئلة الجوهرية والقفز عليها نحو مبادرات (تستعجل قسمة السلطة وتوزيع الثروة) هي محاولة سيكتب لها الفشل السريع، بل ستكون واحدة من محطات إعادة إنتاج الفشل الذي ينطبق عليه قول الشاعر:
إذا ما الجرح رم علي فساد
تبين فيه إهمال الطبيب ..
ولذلك هناك حاجة ماسة لتحليل أسباب الفشل التاريخي بكل صدق وتجرد، والنظر الموضوعي لمكامن الخلل والذي حسب وجهة نظري يتركز حول الفشل في إقامة المؤسسات التي تحافظ علي صلابة الدولة وتماسك أجهزتها، وتعمل علي منع خروج منظوماتها المدنية وأشخاصها من المسار العام المتوافق عليه لبناء الدولة، إن التجارب الناجحة في كل العالم قامت علي إحترام المؤسسات وتقويتها وبنائها بصورة مستقلة عن الأحزاب وعن تأثيرات الأفراد مهما كان وزنهم المعنوي ومساهماتهم الوطنية، أي بمعني أنه لا يستطيع أي رئيس أمريكي أن يفكر في تعديل الدستور للترشح لفترة ثالثة، لأن الدستور كواحد من هذه المؤسسات المستقلة تم وضعه ليخدم قضية الإستقرار وليس لإقرار أوضاع تخدم فئة حزبية أو جماعة سياسية، أو مؤسسة واحدة من مؤسسات الدولة..
ما أود قوله أنه ينبغي أن نتفق أولا علي من هو المعني بالإجابة على أسئلة الإنتقال، بالتأكيد الأحزاب ليست بمنأي عن ذلك الحوار ولكنها ليست الجهة الوحيدة، ينبغي أن يتقدم الأكاديميون الحاذقون بالمقترحات التي تحدد معالم المشروع الوطني، ذاك الذي يعبر عن روح الأمة وثوابتها ومن ثم تتوافق عليه جموع الشعب السوداني بتنظيماتهم المختلفة، ومن رحم ذلك المشروع تخرج المؤسسات التي تحرس المشروع والمسار، ويجب أن ينجز ذلك خلال مرحلة إنتقالية قصيرة لا تشغل الأحزاب نفسها خلالها إلا ببناء نفسها والمساهمة بالأفكار لصياغة المشروع الوطني للمستقبل ..
في إعتقادي إن القطع بأي مبادرة في هذا التوقيت لن تكون ذات فائدة وطنية، ليس فقط لأنها مقدمة من قوي لا تمثل السواد الأعظم من السودانيين وهي كذلك، ولكن لأن توقيت المبادرة والجهات التي تتبناها والطريقة التي تم إعدادها بها لا تعبر عما انتهت إليه التجربة الحديثة في معالجة أوضاع ما بعد الحرب، والتي تتطلب معايير محددة للتعامل مع أزماتها، وفي مقدمة تلك المعايير التوافق القومي ونبذ الإفصاء، والتطلع للمستقبل بروح وطنية وليست حزبية ضيقة ..
كلمتي الأخيرة للحكومة والأحزاب وقادة المجتمع دعونا نحول مأساة الحرب إلي فرصة لإعادة تأسيس تقوم علي أسس سليمة هذه المرة، لأن هذا هو الطريق نحو الحل النهائي لمشاكلنا المزمنة (بالله عليكم) لا تستعجلوا في (كلفتة) المشروع الوطني فقد أدمت أرجلنا مشاوير العودة إلى نقطة البداية كل مرة.