روائح ونكهات العصور القديمة تفوح من متاحف التاريخ بأوروبا

جسدت الماضي بكلياته

روائح ونكهات العصور القديمة تفوح من متاحف التاريخ بأوروبا

زوار متحف اللوفر يستنشقون عطور ماري أنطوانيت ولويس السادس عشر

سيارات البخار وأزياء العمال الملطخة تصور عصر النهضة

كيف كانت شوارع لندن عندما اجتاحها الطاعون في العام 1665م؟

+++++++++++

كتب: أمين حسن عبد اللطيف

تهتمُ الدول المتحضرة بماضيها، وتحفظُ هيئاتها المُتخصصةَ بكل ما أُتيح لها من سُبل وإمكانيات ماضي الدولةَ وتُحافظ عليه بكل صدقٍ وأمانةٍ لخطورته وأهميته.. بل وتبذل متاحف التاريخ بتلك الدول جهودها المُضنية لإبراز ما مضى على هيئته التي تطور عبرها على مدى العصور والأزمان.. كما تحتفظُ هيئاتها وكياناتها الإعلامية –الرسمية وغير ذلك- بكل ما يُبثُ ويختلطُ بالأثير قبل معانقة آذان واحتضان أعين المُتلّقين.. وقد علمتُ بأن أغلب إذاعات وتلفزيونات العالم تُسجّل وتحفظُ حتى نشرات الأخبار بعد بثها لتُمثلَ مرجعاً أميناً للمُهتمين فيما بعد.. وإذا ما عُدنا إلى تلكم المتاحف التي تحفظُ الماضي برسوماته ومُخطوطاته وطبيعته، بل حتى أصواته، فإنها تذهبُ اليوم إلى ما هو أبعدُ من كل ذلك!. وإذا ما تسآلتَ يا قارئنا الكريم عن ما هو أبعدُ من ذلك، فإن الإجابة قد تُذهلكَ كما فعلت مع كاتب هذا المقال!.

× روائح ونكهات الماضي:

أطلقت متاحفُ عدةَ ومجتمعة في أوروبا، الأسبوع الماضي، مشروعاً يهدُفُ إلى إعادة إنتاج روائحَ ونكهاتٍ إستنشاقية سادت أجواء وسماوات بل وأراضي ذلك الماضي بدول القارة العجوز المُختلفة.. وجاء في البيان الرسمي الصادر بالشأن بأن الهدف من ذلك المشروع هو تجسيد تلكم العصور كما كانت عليه وبكل تفاصيلها، حتى يتسنى للمهتمين فرصة التعرف عن قربٍ قريب على ذلك الماضي المقصود.. فعلى سبيل المثال (وليس الحصر) يحتوي جناح عصر النهضة في أوروبا على ما كان عليه الشارع العام بمدينةٍ ما في ذلك الوقت من آليات غريبة –سيارات البُخار- وعُمالٍ في أزياءَ ملطخة بزيوت الماكينات وتسوده أصواتٌ دخيلة على أسماع مارة ذلك الزمن، كما يُمكن لزائر هذا الجناح اشتمام الروائح المُتباينة جداً والتي عمت أجواء ذلك العصر أيضاً.. بل، ويُمكن للزائر أن يستنشق روائح شوارع العاصمة البريطانية عندما اجتاحها وباء الطاعون العظيم في العام 1665 قبل أن يرى ويتحسسُ ما كانت الحياة العامة عليه!. بينما يُفيدُ المتحف الفرنسي (اللوفر) بأن لزائر الجناح الملكي أن يُمتع “خياشمه” بالعطور المُميزة التي كانت تقتنيها الملكة (ماري أنطوانيت) الشهيرة، والملك (لويس السادس عشر) الأشهر!.

× استخدام الذكاء الإصطناعي:

أما عن وسيلة وإمكانية (استنساخ) وإعادة تكوين تلكم الروائح والعطور المُختلفة، فيقول البيان الصادر عن الكيانات المتحفية بأنهم سيستخدمون تقنية الذكاء الإصطناعي، والذي سيُمكّن من تخمين نوع وخاصية الرائحة العالقة المُعينة في ذلك الزمان المُحدد بعد أن يُغذّى الحاسوب بكافة المعلومات المُتعلقة، وبعد أن يُوصّل هذا الحاسوب بـ “أنفٍ حوسبي” ذي حساسيةٍ دقيقة جداً، بالإضافة إلى بيوت العطورات الشهيرة ومصانع ومًنتجي الكيماويات المُختلفة.. وبالطبع، كما تبادر إلى ذهن القاريء الحصيف، سيُكلّف هذا المشروع أموالاً طائلة من أبحاثٍ مُضنية وتصاميم دقيقة جداً وتصنيعٍ أقرب ما يكون من حقيقة تلك العصور وغير ذلك من الجهود المطلوبة.. وكل ذلك بسبب ضرورة وخطورة الاحتفاظ بكافة العصور مُجسدةً وحيةَ أمام مُختلف الأجيال.. وذلك، بدوره، ليس إلا بغرض تعضيد مقولتنا الراسخة لدينا “النِسا قديمو تاه”..

× الماضي أساس المستقبل:

الماضي يمثل أساساً لما سيكونُ عليه المُستقبل، مروراً بالحاضر.. وإذا ما تعرّف الجيلُ المعني جيداً على ماضي الأجداد فسيبني عليه من الفضائل أو يهدمُ ما كان عليه من العادات اللئيمة والمُثبطة للهمم ويتفادى أخطاءَ ما كانت عليه حياةُ الأجيال السابقة ليُرسّخَ للحميدِ من القيم والممارسات بصورةٍ عامة، فتتطور المُجتمعات وتسمو إلى آفاق “المُدن الفاضلة”، وإتاحة الفُرصة لجيل المرحلة بمعايشة التطور الذي انتظمَ ماضيهم والاستمتاع بالتغيير الذي طرأَ الحياة، ومعايشته بكلياته من مرأى وإحساسٍ وروائح، وبالتالي التأكّد من مقولة الشاعر أبي تمّام الخالدة: إنَ الهلالَ إذا رأيت نموّهُ أيقنت أن سيكون بدراً كاملا.. وما أصدق وأعذب هذا النظم المُرتّب وما أحلى ما أورده ابن أوس الطائي.

× خاطرة حبيبة:

ذكر لي أستاذنا القانوني الضليع والشاعر القدير السيد الجيلي عبد المُنعم عباس –ردّ الله غربته- أن الهرم الغنائي الخالد الأستاذ محمد عثمان وردي التقاه في بدايات عقد السبعينات وكان حينها يدندنُ بنغمٍ مُبتكرٍ فطالبه بوضع كلماتٍ لائقة تضيفه ألقاً. فجاءت الكلمات المنظومة على وزنِ رُباعيات ولم تزد عن مقطعٍ واحدٍ وفريد.. مرّت السنون والتقيا مرةَ أخرى وبعد عقديْن من الزمان، بحسب روايته، ليُطالبه الأستاذ وردي بتكملة تلك الرباعيات وباستعادة الوحي القديم لتكتمل الأغنية وتستولي على الأسماع شجناً طيباً كما أغنياتهما السابقة.. فكان رد الأستاذ الجيلي بأن ذلك لا ينبغي لأن العصر تغيّر ومشاعر عقد السبعينات لن تعودّ كما كانت عليه وسيظهر للمستمع “التلتيق” لتنكره الآذان من صناعةٍ غير مُستحبة!، إلا أن إصرار الفنان الكبير وردي أقنع شاعرنا الجيلي بالمحاولة فألهمّ قلبه “الطيب” بعدّ جُهدٍ ومشقة وعاد إلى زمانه ذلك وأكمل تلك الرُباعيات الرشيقة والشابة ليُلبسها وردي ثيابَ لحنه المُسترجع والراقي فتخرجَ أغنيةً مكتملة وحسناءَ كما أغنياته الباقية.. للأسف، لم يُقدّم الأستاذ محمد وردي تلك الأغنية العظيمة وهي بعنوان “واحد الحُسنِ”، لتبقى حبيسة الحوافظ الصوتية المحدودة وصدور القلة ممن استمعوا إليها.. ما كان أسهل على الأستاذ الجيلي عبد المنعم عندما أراد العودة إلى الماضي إذا ما توفرت لديه رائحة ذلك الزمان الشباب بالإضافة إلى الصور والأصوات والأحاسيس والشجون المُسترجعة؟!. فهل اكتملت لدينا ضرورة وأهمية الاحتفاظ بروائح الماضي لتجسيده متى ما دعت الحاجة إلى ذلك؟!.