حسين خوجلي يرثي الراحل المؤسس أحمد عبدالرحمن محمد

ولألوان كلمة

حسين خوجلي يرثي الراحل المؤسس أحمد عبدالرحمن محمد

وقوفا يرانا الموت نخفي جراحنا وليس يرانا رُكّعاً في انتظاره

١/ أربعة شباب كانوا يملأون ساحة مدينة بربر العريقة نشاطاً وتدفقاً وكانوا مزاجاً ومزيجاً ما بين السياسية والثقافة والفكر حيث كان يمثل الثلاثي أحمد عبدالرحمن محمد الذي أصبح وزيراً للداخلية لاحقاً وأحمد شبرين الذي أصبح لاحقاً واحداً من أشهر التشكيليين العرب والأفارقة ومن مؤسسي مدرسة الخرطوم للتشكيل برفقة عثمان وقيع الله والصلحي وكان ثالث الثلاثة الاقتصادي صلاح أبو النجا الذي صار لاحقاً المدير العام لبنك التضامن الإسلامي كانوا يمثلون الوجه الجديد للحركة الإسلامية السودانية على أعتاب الاستقلال. أما الرابع فقد كان القيادي الماركسي عمر مصطفى المكي الذي أصبح لاحقاً رئيساً لتحرير الميدان وعضواً باللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني. وتذكر له الساحة السياسية والثقافية مساجلاته الشهيرة في نهاية السبعينيات مع الشاعر والدبلوماسي صلاح أحمد إبراهيم الذي كان يهاجم الحزب بضراوة وكان المكي المدافع الأول عن الحزب وقيادته. ومن غرائب الصدف والشؤون أن عمر مصطفى المكي نفسه قد صار خصماً لسكرتير الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب، بل كان العقل المفكر نظرياً لإنقسام الحزب الشيوعي عام سبعين مع رفيقيه معاوية إبراهيم سورج وأحمد سليمان المحامي. وقد شهدت الساحات بمدينة بربر عراكاً فكرياً عنيفاً بين أحمد عبد الرحمن محمد الفتي المتحمس للتيار الإسلامي وعمر مصطفى المكي الفتى الأكثر حماسةً للتيار اليساري.
٢/ كانت المحطة الثانية للأستاذ أحمد عبد الرحمن انه قد عمل مدرساً بالمدارس الوسطى مما أكسبه خبرة واسعة في معرفة المجتمع والناس، وانتقل بعدها لجامعة الخرطوم حيث إلتقى في تلك الفترة بنجوم اكتوبر من القيادات الإسلامية الجديدة وعلى رأسهم الشاب الدكتور حسن الترابي الذي أصبح مبكراُ عميداً لكلية القانون بجامعة الخرطوم وقائداً لأكتوبر وبعدها مؤسساً لجبهة الميثاق الإسلامي مع الشهيد محمد صالح عمر وجعفر شيخ إدريس ومحمد يوسف محمد وعثمان خالد مضوي، حيث تنحى الرشيد الطاهر بكر المراقب العام للاخوان المسلمين بعد سجنه لسنوات في انقلاب كبيدة الذي شارك فيه من وراء ظهر التنظيم.
٣/ بعد تخرج الأستاذ الناشط أحمد عبد الرحمن من جامعة الخرطوم تم اختياره ضابطاً إدارياً بمدينة القضارف حيث ترافق مع صديقه الفتي أحمد إبراهيم أبوسن الذي أصبح لاحقاً أستاذاً بالجامعة مع صديقه دفع الله الحاج يوسف المحامي، وقد أسس ثلاثتهم خلية نشطة وتنظيماُ مفتوحاً للإسلاميين بالقضارف، وكان أحمد عبد الرحمن محمد بنشاطه الإجتماعي الواسع وحيويته سبباً في استقطاب الكثير من الشباب لصالح الحركة.
٤/ كانت لأحمد عبد الرحمن بعد ذلك تجربة ثرة في الإدارة بمديرية كسلا، وقد أسس مع رفاقه بقيادة موسى حسين ضرار والأستاذ عبدالباسط عبد الماجد وآخرين حركة نشطة للإسلاميين بكسلا وبورتسودان وشرق السودان عامة.
٥/ أثناء عمل أحمد عبد الرحمن ضابطاً إدارياً بالنيل الأبيض رافق اخوة الفكرة ببحر أبيض مبارك قسم الله زايد بكوستي معلم اللغة الإنجليزية بالثانويات وأصبح لاحقاً الأمين العام لمنظمة الدعوة الإسلامية التي ملأت السودان وأفريقيا خيراً وبركة ودعوة وإنجازات إلى أن اغتالتها الأيدي الآثمة بعد ديسمبر. تعرف أحمد عبد الرحمن بالداعية والمعلم الخلوق النور علي بالدويم وقد جمعت بينهم صداقة عميقة كان من ثمارها مصاهرته لهذه الأسرة الكريمة حيث اقترن بشقيقة النور ورُزق منها الذرية الصالحة، ومنهم الدكتورة عفاف أحمد عبد الرحمن التي أصبحت لاحقاً وزيرة للتنمية الإجتماعية.
٦/ سافر بعدها الأستاذ أحمد عبد الرحمن مبعوثاً إلى هولندا حيث أتم دراسته العليا هناك وعندما هم بالعودة إلى السودان كان انقلاب مايو بواجهته الشيوعية قد أطبق على البلاد، فحط رحاله بأثيوبيا حيث أسس مع رفاقه الشريف حسين الهندي والدكتور عمر نور الدائم وعثمان خالد مضوي الجبهة الوطنية لمقاومة النظام وقد إلتحق بهم بعد أشهر الأستاذ مهدي إبراهيم بعد نجاته بأعجوبة من حادثة حريق محلج ربك التي استشهد فيها الأستاذ الجامعي ووزير اكتوبر الشهيد محمد صالح عمر.
٧/ كانت المملكة العربية السعودية في عهد الملك المجاهد فيصل إبن عبد العزيز مستقراً للمعارضة السودانية وهي تناضل في استعادة السودان الذي تم اختطافه على يد الشيوعيين والقوميين العرب والبعثيين والشعوبيين والعلمانيين، وهي ذات اللافتة والشعارات التي تدير المؤامرة الآن ضد بلادنا مع بعض المرتزقة من فوائض الطائفية والأحزاب السياسية التي شبعت موتا، أو ما زالت في الرمق الأخير. عمل الأستاذ أحمد عبد الرحمن محاضراً للإدارة في الجامعات السعودية، وقد تخرج على يديه الكثير من النابهين من أبناء المملكة وقد احتفظ حتى رحيله الفاجع بعلاقات وثيقة مع تلاميذه الذين تسنموا فيما بعد أرفع المناصب في بلادهم، وقد ظل منزل الرجل بالمملكة مقراً دائماً للكوادر والناشطين بالمعارضة الوطنية وكان دائماً ما يردد الراحل عمر نور الدائم بأن منزل أحمد عبد الرحمن كان خلوة للجميع وكانت زوجته أختاً للجميع لا تغادر المطبخ إلا لأوقات الصلاة.
٨/ إنخرط بعدها الأستاذ الراحل أحمد عبد الرحمن لثورة شعبان ٧٣ التي كادت أن تقتلع أركان النظام، وجاءت بعدها انتفاضة ٢ يوليو ٧٦ المسلحة المباركة التي أسقطت نظام جعفر نميري تماماً إلا أن بعض الأخطاء في التقديرات مع الفشل في تشغيل الإذاعة التي تركت مهمتها لحزب طائفي وتقليدي كشفت التحقيقات لاحقاً إنه كان مخترقاً تماماً ومازال إلى اليوم غارقاً في الإختراقات ولو قدر النجاح لهذه الحركة لتغير وجه السودان السياسي والإقتصادي إلى الأبد. وقد كان مهر تلك الثورة المباركة عدداً من الشهداء البواسل والشرفاء في مقدمتهم العميد المهندس الشهيد محمد نور سعد، وشهداء دار الهاتف حسن عوض الله وعبد الإله خوجلي وعبد الرحمن إميلس وعبد الفضيل إبراهيم وإبن الشرق الشهيد إدريس هٌمت والمهندس حسن سليمان وختم أحمد عبد الكريم وعبد الفضيل إبراهيم وحافظ جمعة سهل ومحمد أحمد يوسف وشهيد معركة المطار الدكتور عبد الله ميرغني شقيق الصحفي عثمان ميرغني وعدداً مقدراً من الثائرين الذين قتلوا بلا محاكمات ودفنوا بالحزام الأخضر.
٩/ كانت هذه الحركة المباركة الفاصلة في السياسة السودانية هي المقدمة المركزية لإلتقاء الفرقاء بعد أن كادت الخصومة أن تمزق البلاد تماماً إلى أشلاء وكانتونات عرقية، فكانت المصالحة الوطنية التي افترعت بلقاءٍ شهير بين الرئيس جعفر نميري والسيد الصادق المهدي ذلك اللقاء الذي أفضى إلى توقيع ميثاق المصالحة الوطنية ودخلت بعده قيادات الجبهة الوطنية لمعترك السياسة المايوي حيث أدى السيد الصادق القسم للإتحاد الإشتراكي وعمر نور الدائم وشريف التهامي وعبدالحميد صالح وآخرون. وقد أدى الإسلاميون ذات القسم، وعلى مقدمتهم الدكتور حسن الترابي والكثير من قيادات الصف الأول وفي الوقت الذي نفض السيد الصادق المهدي يده من المشاركة وبقي في منزلةٍ بين المنزلتين تاركاً قياداته للممارسة السياسية مع النظام، أما دكتور الترابي الذي عرف ببراغماتيته واغتنامه للفرص السياسية، فقد استطاع في فترة وجيزة أن يؤسس أضخم حركة سياسية سنية بالمنطقة العربية والأفريقية الآسيوية بعد أن فك إرتباطه مبكراً بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين مما أكسب حركته مرونة وخصوصيةً وتميزاً وفعالية. كانت أهم ملامح ذرائعية تنظيم الحركة الإسلامية استطاعتهم في السيطرة على كل اتحادات الطلاب التي خرجت لهم الآلاف من الكوادر في شتى التخصصات واستطاع ايضاً أن يسيطر على الكثير من النقابات وأن يدير بفعالية تجربة الإقتصاد الإسلامي التي أخرجت حركته من دائرة العوز إلى دائرة العزة والتمكين الإقتصادي، وأشرف من كل ذلك انه الحزب الوحيد الذي ضم في وعائه المسماح كل أبناء السودان، وكل شبابه من الفقراء فأصبحوا سادة وقادة لا يطلبون المناصب والإستوزار كما كان قديماً بين يدي الطائفية السياسية في مذلة وإنكسار.
كما انه استطاع أن يؤثر بالتربية والإستقطاب على كثير من كوادر الجيش والشركة والأمن وتحييد خصومه في النظام المايوي الذين أصبحوا لاحقاً معيناً وداعماً لتجربته في الجبهة الإسلامية القومية والتجربة الحاكمية في الإنقاذ. وقد نال الراحل أحمد عبد الرحمن محمد وزارة الداخلية بعد المصالحة الوطنية ووزارة الشؤون الإجتماعية في حكومة الوفاق الحزبي عام ٨٦، وقد استطاع الأستاذ أحمد عبد الرحمن بخبرته الإدارية أن يحقق للجبهة الإسلامية القومية ستة وخمسون نائباً وسط دهشة المجتمع السياسي السوداني والمراقبين للحالة السياسية السودانية بالخارج.
١٠/ نال الأستاذ الراحل أحمد عبد الرحمن الكثير من المسؤوليات والوظائف الظاهرة والمخبوءة بعد نجاح ثورة الإنقاذ وقد أدت فعالية الرجل ونشاطه الإجتماعي مع كافة القوى السياسية من أقصي اليمين إلى أقصى اليسار أن يؤسس شبكة علاقات وأمشاج من التواصل أدت مع جهود الآخرين لبقاء سلطة الإسلاميين – رغم الإنقسام والعداء الخارجي والإقليمي ونشاط المعارضة والتمرد المسعور – لمدة ثلاثين عاماً.
١١/ ساهم الراحل أحمد عبد الرحمن في تأسيس ومجلس إدارة أغلب المؤسسات السياسية والإقتصادية والطوعية للتيار الوطني الإسلامي العريض فقد كان من مؤسسي ومستشاري منظمة الدعوة الإسلامية بقيادة الدكتور المجاهد العالم والرسالي الأمين محمد عثمان وجامعة أفريقيا، كما ساهم في تأسيس الوكالة الأفريقية للإغاثة مع رفيق دربه الدكتور الراحل عبد الله سليمان العوض والجامعة العالمية بالخرطوم والكثير من المؤسسات العلمية والتعليمية والإغاثية والإجتماعية والخيرية من ما لا يحصى ولا يستطيع أحد الإحاطة به لتعدده كماً وكيفاُ.
كان الراحل أحمد عبد الرحمن لا يعرف الراحة ولا الإجازة ولا الإستجمام منذ أيام الطلب الأولى إلى آخر يوم في رحيله الفاجع، كان عليه الرحمة كريماً وصريحاً وشجاعاً وكان حفياً بأهله وأصدقائه، وبرغم صلابته الإدارية إلا أنه كان رقيق القلب قريب الدمعة له حبٌ وتقدير مقدس لاخوانه في الأجيال المختلفة، وكان عليه الرحمة لا يعادي أحداً ولا يتهم أحداً، وعندما كان يسأل عن خصومة وانقسام الإسلاميين كان يقول: مما نتأسى ونتعزى به أنه اختلاف لا يطال الفكرة ولا الإعتقاد وإن طال المواقف والإجتهاد. رحم الله الراحل والداعية والمؤسس أحمد عبد الرحمن محمد الذي بدأ التبشير للدعوة مع اخوته وكان شباباً يعدون على صوابع اليد الواحدة، وصارت بفضلهم وبركتهم وجهادهم واجتهادهم ومواهبهم فكرة، ثم دعوة، ثم تنظيم، ثم حركة، ثم تيار، ثم نضال وجهاد، ثم مؤسسات، ثم ثورة، ثم تجربة، ثم انكسار لتصحيح الخطى ومؤشراً للإنتصار الكبير لصالح هذه الأمة الشاهدة.
“مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ رِجَالٞ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عليهِۖ فَمِنۡهُم مَّن قَضَىٰ نَحۡبَهُۥ وَمِنۡهُم مَّن يَنتَظِرُۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبۡدِيلٗا”
صدق الله العظيم.