العملاق التجاني عامر .. ناحت الصخر صبرًا

شخصيات ضد النسيان

العملاق التجاني عامر .. ناحت الصخر صبرًا

كتب: صلاح الدين عبد الحفيظ

من قدر العظماء من أساطيرنا السودانية تلك المؤثرات البيئية ذات البواعث الحية للإبداع ونكران الذات، بل تقديم الخير لأهل السودان. ما سبق كان انطباق الصورة الحية لها في شخص العملاق التجاني عامر، ذلك الذي حباه الله ومنذ صغره بصفات القيادة والريادة والأفكار الخلاقة لمجتمعه. بأمدرمان ومن أسرة ضاربة في العلوم الدينية والدنيوية وُلد التجاني عامر لأرومة أهل القرآن بمناطق بربر. أهله صالحي المنبت والمظهر كانوا ذا تأثير في شخصه. درس أولًا بمدرسة أمدرمان الأولية ومن ثم كان الالتحاق بالقسم التجهيزي بكلية غردون التذكارية التي انطلق منها نحو القسم العمومي ومن ثم كان التخصص في الصحة العامة.
تقول الوثائق المتوفرة لشخصي أنه ومجموعة من زملائه أثناء الدراسة بكلية غردون التذكارية كانوا في تنظيم لحياتهم نشاطًا رياضيًا وأدبيًا مكنهم من الريادة وتسجيل أسمائهم في تاريخ السودان كشخصيات من طينة الأفذاذ.
ففي الكلية القديمة غردون كانت كرة القدم والجمعيات الأدبية، وهو ما انطلق منه أسطورتنا التجاني في تأسيس نادي الهلال العظيم ومن ثم تكوين أول جمعية أدبية في تاريخ الأندية السودانية وذلك قبل تخرجهم من غردون، وذلك في العام 1930 وتحديدًا في فبراير منه.
شكلت المجموعة التي ضمت بجواره وهم أفذاذ سجل التاريخ أسمائهم بحروف من خالص الذهب بابكر مختار تاتاي ويوسف المأمون وحمدنا الله أحمد ويوسف رجب وعوض أبوزيد والتجاني القاضي وحسن عوض الله ويوسف مقابلي وصالح مصطفى الطاهر النواة الأولى لنهضة ما زالت حتى الآن موروثة لأهل السودان رياضة وأدبًا غنيًا تمثل في الشعر والصحافة والكتابة والوثائق التي كان هو حادي ركبها وأحد الذين أعطوا السودان عصارة جهدهم فيها.
شارك العملاق في تأسيس نادي الهلال وكان أحد لاعبي النادي في الثلاثينيات، بل إداريًا به، ويعود إليه الفضل مع الكوكبة أنفة الذكر بوضع أول دستور لأول نادٍ في تاريخ السودان.
قريبًا من الوطن وداخل الهم الوطني كان نادي الخريجين الذي انتمى إليه بحكم قرب سكناه بحي الشهداء بأمدرمان، وهو النادي الذي تطور فيما بعد ليصبح مؤتمر الخريجين العام في فبراير 1938.
في ازدواج انتماء لناديي الهلال والخريجين كانت هذه المجموعة في انتماء رياضة وأدبًا وليالي ثقافية، وهو السبب في تنامي منظومة الكتاب والأدباء بنادي الهلال أكثر من غيره من الأندية.
داخل الجمعية الأدبية بالنادي كان كاتبًا بالصحيفة الحائطية بمقالات حول الأدب وتاريخ السودان في كبسولات صغيرة، وللعجب والدهشة كانت فيما بعد تمددًا واتساعًا لها لتصبح كتبًا ومقالات عديدة، بل مراجعًا استفاد منها طلاب العلم والباحثون بفضل جهده وتوسيع وعاء جهده وبحثه، بل تسفاراته العديدة لجلب المراجع التاريخية من مصر وبريطانيا.
منذ تخرجه من الكلية القديمة وحتى تقاعده ظل في ترحال لخدمة الوطن في مهنته كضابط للخدمات الصحية بكل من الخرطوم والأبيض وجنوب السودان.
في مهنته التي أحبها كضابط صحة عمل بجهد خالص لتجويدها بما يخدم الوطن وأهل وطنه.
ابتعثته الحكومة لنيل دراسات متقدمة في العمل الصحي ببريطانيا في نهاية الأربعينات، وهو ما أهله ليصبح أحد قادة العمل الصحي بالبلاد آنذاك.
حين عمله بالأبيض في الخمسينيات وجدها فرصة للكتابة بصحيفة كردفان، فكان أحد كتابها الرئيسيين، فشهدت صفحات الصحيفة إبداعًا من جنس الإبداع الكتابي في قضايا الأدب والتاريخ والوثائق.
تعددت اهتماماته من مشارك في تأسيس الحركة الرياضية في بواكير تأسيسها في السودان إلى كاتب صحافي في جزئية الوثائق السودانية، إلى كاتب منوعات خفيفة الظل والمؤانسة بالصحف، إلى مهموم بالسودان وأهله، وهو ما جعله يترشح في انتخابات البرلمان الديمقراطي في انتخابات العام 1968 في أشرس وأخطر بل أهم دائرة انتخابية، وهي دائرة أمدرمان الرئيسية التي ترشح فيها عن الحزب الوطني الاتحادي أحمد زين العابدين وعن الحزب الشيوعي عبد الخالق محجوب، وهي التي فاز بها أحمد زين العابدين.
لم يكتفِ عملاقنا بكتاباته الصحفية فنحت في صخر الإصرار لإصدار صحيفة من تمويله الشخصي فكانت صحيفة “العاصمة” التي لم تعمر طويلًا بسبب ضعف الإعلان وعدم وجود ممولين كبقية صحف ذاك الزمان.
كتب الشعر فكان أحد رصيني المعنى واللغة عبر إنتاجه ديوان (جد وهزل).
داخل الإنتاج المعلوماتي والوثائقي فقد أنتج مقالات بمداد الذهب عن السودان القديم، زائدًا كم هائل من الاستراحات الخفيفة حول قضايا سودانية معاصرة.
تقول إحدى كريماته، الأستاذة انتصار التجاني، لشخصي أنه وحين اشتدت عليه العلة قبل وفاته كان يكتب لصحيفة “السياسية” مقالات عن تاريخ السودان وكانت المحاقن في يده تتكرر يوميًا حتى يبلغ الصحة، فكان يقول لأبنائه وبناته: “لا تضعوا المحاقن في يدي، فإني أحتاج لها في الكتابة”.
ومن عجب ففي نفس اليوم الذي توفي فيه بتاريخ 31 أكتوبر من العام 1988 كانت صحيفة “السياسية” تحتفي بمقاله الأخير له.
لا أدري حتى هذه اللحظة كيف تسنى لهذه الأسطورة العمل الحكومي والمشاركة في تأسيس ونهضة نادي الهلال والكتابة الصحفية وكتابة الشعر والاهتمام بالوثائق السودانية منذ تخرجه من الكلية القديمة في العام 1938 وحتى وفاته.
طبت حيًا وميتًا أيها العملاق.