الاحتفال باليوم العالمي للراديو .. هنا أم درمان

ما بين إذاعة لندن ومقهى “طه البُلك” بالأبيض ولدت فكرة من حقيبة الفن

الاحتفال باليوم العالمي للراديو .. هنا أم درمان

سر إعجاب الشيخ محمود سامي بمطرب الطنبور الأشهر!

بقلم: أمين حسن عبد اللطيف
يحتفلُ العالم باليوم العالمي للإذاعة، والذي حددته منظمة اليونيسكو في الثالث عشر من شهر فبراير، وذلك بغرض الوفاء لتقنية الراديو التي شكلت عالم الأمس واليوم والغد.. وفي هذا اليوم يجدرُ بنا أن نسوق التهاني لإذاعتنا القومية ، “هنا أم درمان”، والتي تعدّى عُمرها الخامسة والثمانين من الأعوام لتحتلّ مكاناً علياً في قائمة أجهزة الإعلام العالمية الأولى وفي أنفُس السودانين. إذ أنها رأت النور -أو الصوت!- في اليوم الثاني من شهر مايو بالعام 1940 وذلك عندما انطلق الصوت الجديد في سماء الدنيا ليُعلن أن “هنا أم درمان” مُرسخّاً للهوية السودانية، التي لم تتكوّن بعد بالمفهوم السياسي وإن كانت سايكولوجياً تعتملُ في قلوب وضمائر من يعيشون على أرض المليون ميل مربّع في ذلك الزمان.

+ صياغة الوجدان القومي:

وعلى الرغم من أن الغرض من إنشاء الإذاعة كان لأسبابٍ لا تمتُّ لأهل السودان بصلة، إلا أنها أصبحت – فيما بعد – العامل الاجتماعي الأبرز في صياغة الوجدان القومي نحو تعزيز الوحدة الوطنية في السودان الكبير والعريض، بل وأضحت الوسيط الأوحد لعقودٍ طوال في نشر الأخبار وتثقيف العقول ومناجاة الضمائر، فضلاً عن الترفيه الأصيل وطرد الضيق عن الصدور والحث على السعي في سبيل الرِفعة والمجد الذي يخصُّ السودان. وبالطبع، وقف وراء ذلك الجُهد الخلاق نفرٌ كريمٌ من أهل هذا البلد مُستغلين الذكاء الفطري الذي اشتُهرَ به قومُه والوطنية الخالصة التي تُميّزُ أهلُه، قبل أن يأتي، وبعد أكثر من عقدٍ، التدريب في إذاعات الهيئة البريطانية بالمملكة المُتحدة، لتقفز “هنا أم درمان” إلى فضاءات جديدة تُمجّد وجودها الفاخر وتبث الفرح إلى أبعد من حدود السودان الجغرافية. وبما أن المِزاج العام في بلادنا يُعرّفُ بالإرتباط فإن لكلٍ منّا موقفٌ وقولٌ يحمله برفقٍ إلى رحاب “هنا أم درمان” ومقامُها السامق في قلب كل سوداني. ويرتبط بعقلي بعضٌ من المواقف أثناء استماعي بفرحةٍ متوالية ومتصلّة إلى راديو أم درمان ما لن أغفل عنه ما حُييت.

+ تلاوة ملهمة:

يُعدُّ الشيخ محمود سامي من الأوائل الذين قرأوا القرآن تلاوة مُلهمة في “هنا أم درمان”، وكان إنساناً خلوقاً متعدّد الآفاق والمشارب. فقد صرّح بأنه قبل أن ينخرط في الدراسة بالأزهر الشريف انضمّ لمعهد الموسيقى بالقاهرة لدراسة المقامات العربية وإتقانها، وبعد ذلك تأهلّ لأخذ التلاوة من شيوخ الأزهر. وعبر “هنا أم درمان” وفي برنامجٍ شهير بالسبعينات كان يقودهُ ألقاً وسماحةً الإذاعي الشهيرالأستاذ محمد سليمان، رتّلّ الشيخ الجليل آياتٍ بينات من الذكرعلى مقاماتٍ موسيقية متنوعّة توضيحاً للفروقات الموسيقية. وشدا بعد ذلك بموشّحٍ عربي تُراثي، وأغنية من كلمات شاعر الحقيبة الفذ عبيد عبد الرحمن، وذلك لدهشة الأستاذ محمد سليمان المُحببة قبل أذن المُستمع الحصيف في ذلك الوقت!. وقال الشيخ محمود سامي أنه يُغنّي ليُرفه عن نفسه الملولة بل ويتخيّر في الغناءِ أطربهُ كما أغاني الفنان أبو عبيدة حسن على حد قوله.. رحم الله الشيخ الرقيق محمود سامي وتقبله والأستاذ محمد سليمان القبول الحسن.

+ من حقيبة الفن:

عندما ابتُعثّ الأستاذ –والسفير لاحقاً- صلاح أحمد محمد صالح إلى بريطانيا ليعمل في اذاعات هيئة الإذاعة البريطانية مُتدرباً في العام 1952 ترك خلفه أحدث اسطوانتيْن تجاريتيْن يُثيران ضجة غير مسبوقة في أوساط الفن الغنائي حينها، وهما أغنيتا “أهواك” للعميد أحمد المُصطفى و”مات الهوى” لسلطان التجديد عثمان حسين، عمِلَ عن كثبٍ مع إذاعي عراقي من أهل البصرة يُدعى نعيم البصري. وكان الأستاذ نعيم هذا مولعاً بالغناء السوداني إذ كان كثيراً ما يترك عمله وراء أجهزة التسجيل إخراجاً لينضمَّ إلى الفرقة السودانية المُصاحبة لفنانٍ ما عازفاً على آلة الإيقاع التي يُجيدها أثناء تسجيلهم لأعمالٍ في هيئة الإذاعة البريطانية، بل وكثيراً ما كان يُسمعُ مترنماً طرباً عميقاً بأغانٍ سودانية وهو يسيرُ في رُدهات الإذاعة البريطانية العريقة. أوحى نعيم البصري للأستاذ صلاح أحمد بفكرة برنامجٍ إذاعي يتضمن بث أغانٍ سودانية تستهدفُ مكاناً ما في السودان أو جماعةً معينة، كما المجتمعين في تلك اللحظة بـ مقهى طه البلك في الأبيّض، على سبيل المثال!. وقد ذكر الأستاذ صلاح بأنه عانى كثيراً في الحصول على أغاني سودانية في ذلك الزمن، واضطرُّ إلى الاستعانة ببعض السودانيين –الموظفين- المُبتعثين إلى المملكة للغناء في البرنامج بتلك الفترة الخصيبة من عمر الزمان السوداني والبريطاني. وقد صادف البرنامج هذا هوىً في أفئدة الكثيرين وقتها واشتُهرّ كثيراً عل امتداد القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية. وعندما عاد الأستاذ صلاح أحمد إلى “هنا أم درمان” طوّر فكرة ذلك البرنامج وحورّها لتُضحي “من حقيبة الفن” التي يوحى إلى المُستمع إليها حينها بأن ما يسمعه من اغانٍ على اسطوانات تؤخذُ من حقيبة عتيقة –ومُعتقّة طرباً- لتُلعّبُ زهواً على مسامعه.. وذهب الأستاذ العجيب صلاح احمد إلى أبعد من ذلك ليطلب إلى مُغنييّ المدرسة الوترية حينها أداء أغاني الرعيل الأول بالموسيقى. ولن أتجرأ في الاسهاب عن ذلك هنا احتراماً للأستاذ المُخضرم عوض بابكر فهو أدرى بتفاصيل هذا الضرب من فنون الإذاعة، متعّه الله بالصحة وعافاه.
والتهنئة بهذا العيد العالمي وفي هذا اليوم تُساقُ فخراً إلى البروفيسور علي محمد شمّو الذي قامت نهضة “هنا أم درمان” على اجتهاده وأفكاره وخبرته، فضلاً عن رموز الإذاعة السابقين له وهؤلاء الذين حملوا المشعل الوهّاج من بعده. لهم جميعاً كل الامتنان والمحبة على ما يقدمونه للسودان وللإعلام وللاستنارة والوعي..