(جهة سمْسم) .. حسناء تنتظر المطر في جنوب القضارف

من أخصب أراضي السودان الزراعية

(جهة سمْسم) .. حسناء تنتظر المطر في جنوب القضارف

بقلم: أمين حسن عبد اللطيف

تُعتبرُ منطقة جنوب القضارف – جٍهة سَمسَم – أثرى أراضي السودان خصوبةً ودَعة!. وهي بالطبع أرض السماسم والعيوش كما يُطلقُ عليها. بدوتُ –بها- وقومي حاضرون لا لأنني أرى غيرها قفراً، كما قال أبو فراس الحمداني، ولكن ربما لحنينُ “القريبِ!” للترحالِ، والعُتبى لشاعرنا الفاخر الناصر قريب الله. على الرغم من مشقة الوصول إلى تلك القُرى النائية ووعورة الطريق في فصل الجفاف إلا أن مشاعر الطمأنينة تعترى نفس كل من يخطو بأصقاعها. أرضٌ ممتدة إلى ما وراء البصر بتربة سمراء صلدة وقاسية لا تُلين إلا بماء السماء الذي يُحيلها صلصالاً عند ملامستها، وهذه إحدى عجائبُ ذلك المكان المسحور الكُثرُ. يقولُ أهلُ المنطقة بأنها كانت غابة تعجُ بالوحش من الحيوان واشتُهرت بالزراف –ركوب الجن!- إلا أن إزالة الأشجار الكثيفة منها بغرض الزراعة أجبر الحيوانات على النزوح إلى حظيرة الدندر الشهيرة وراء نهر الرهد الموسمي والهجرة إلى ما بعد حدود السودان الشرقية، وإن كان بعض تلك الحيوانات باقٍ فـ “الولِف كتّال” وإنه كذلك إذ غالباً ما ينتهى الأمر بالثعلب “البعشوم” ضحيةً داخل قِدر العشاء (الحّلة)!.

× جافة وقاسية:

وتزخر تلك البلاد بعجائب ومُذهلات، إذ أنها جافةٌ وقاسية فإذا ما أقبل الفصل المطير بالرعود والبروق جرفت السيول الإنسان والحيوان وغرقت الأراضي الممتدة تحت أمتارٍ من مياه السماء لتهتز التربة بعد ذلك وتربو لتُنتجّ المحاصيل حبوباً زيتية وغذائية تُكفي حاجة السودان وتُفيضُ خيراً لدول الجوار وما ورائها في ذلك الزمان، على الرغم من سُبل الزراعة التقليدية والتاريخية المتوارثة والتي يتّبعها أهل المنطقة!. كما أن تُربة تلك الأرض ثرية ودسمة وربما مسحورة أيضاً، إذ جلب أحدهم إليها مرةً بذور ثمرة الليمون من الخرطوم وزرعها بها لتُنتجَ ثماراً بأحجامٍ ضخمة لا كما ليمون العاصمة صغير الحجم وقليل العُصارة!.

× حظيرة السفاري:

أما وراء نهر الدندر الموسمي الذي يحدُّ منطقة الزراعة ويُفصلها، فهنالك حظيرة السفاري الزاخرة بالوحوش المحمية والأشجار النادرة والطيور البهية التي تزورها موسمياً من كافة الأرجاء لتشبع من أطراف “تِقيها”، كما أفتخر بذلك الشاعر الكبير اسماعيل حسن (ود حد الزين). ولأن النهر موسميٌ يعمدُ بعض السُكان إلى دخول الحظيرة في موسم الجفاف لجلب عسل النحل المبارك، والذي لا يوجد له مُماثلٌ، للتكسّب منه، بل يعمد البعض إلى ادخال أبقارهم لا للرعي فقط وإنما لفرصة تناسلها النادرة مع حيوان الجاموس الوحشي، فالهجين الناتج، كما يعتقدون، يمتازُ بإنتاجه كميات ضخمة جداً من الحليب، ولا يُحظى بذلك إلا القلة السعيدة!. وعلى الصعيد المُقابل هنالك القرد المتوحش والمُسمى بالـ “بابون” أو “التِقِل” بلسان أهل المنطقة. وهو ضخمٌ وذكيٌ جداً، يعبرُ النهر الجاف ليسرق من مساكن أهل المنطقة البسيطة بعض ممتلكاتهم ولا سيما الحلوى والمخبوزات، وهو عنيف وشرس ولا يتوانى عن هجوم البشر إذا ما دعته الحاجة، ولذلك يُكثرُ الناس من تربية الكلاب الكبيرة بغرض الحماية من ذلك المِسخ اللعين!. وبالطبع تقع الاحتكاكات الموسمية بين الزُرّاع وقوات الحياة البرية الذين يحرسون الحظيرة بعينٍ يقظة ووعيٍ كبير، إلا أن الحكمة دائماً ما تنتصرُ بين الطرفين لتخمد جمر النزاع في مهده، فُحكماء الأهالي ولواءات القوة النظامية يهدفون إلى تغليب الحق والخير نحو الاستقرار وعزة الوطن والإنسانية.

× يوم الزينة:

أهل المنطقة، على اختلاف ألسنتهم وانتشارهم على حلّالٍ متناثرة، يلتقون في أيامٍ محددة بالسوق المُتنقّل!. إذ يُقام ذلك السوق بحِلةٍ معينّة ترتبط باليوم المضروب. ويجتمع الأهالي لتبادل السلع والمُنتجات وأيضاً تناقل أخبارهم المتنوعة. وذلك اليوم هو يوم الزينة بالنسبة لهم، إذ أن اجتماعهم هذا يقربّهم ويجمعهم على بُعد مساكنهم وأراضيهم المزروعة. وإن كان ذلك السوق لا يحتوي على جانبٍ أدبي أو فنّي إلا أنه يمثّلُ تواصلاً لأجيالهم وامتداداً لأصولهم. لذلك تُعتبر القضارف على نحوٍ عام وعاء انصهارِ لكافة القبائل والأجناس التي تردُ إليها لتعمل أصلاً في مجال الزراعة الموسمي ولكنها تبقى لتتصاهرُ بها وتتناسبُ على مرِّ العصور والدهور، ويمثّل هذا الاختلاط المحمود بدوره سمةَ أهل السودان الغالبة، لذلك كان مهداً للحضارة الأولى في الدُنيا ومركزاً لأطماع العالم على مدى التاريخ بإنتاج أهله ومجهودهم الذي يصّبُ على أرضهم وتربتهم غِنىً مجيداً، فضلاً عن الخيرات المُباركة والدفينة بآراضيه الممتدة بِشراً وذُخراً.

× رمز وطني من المنطقة:

قدُمَ الإنجليز إلى السودان بغرض استعماره واستغلال ثرواته لمصلحتهم أولاً وأخيراً، إلا أنهم أُجبروا على تعميره وإرساء قواعدَ لبُنى تحتية متينة، بل وتعليم أبنائه ومدهّم بأدوات التقدم نسبةً لما لمسوه من أصالة وصدق في قلوب السودانيين. وبسمو أنفس الرعيل الأول من الآباء والأجداد ترك البريطانيون السودان وأجلوا قواتهم وعتادهم في ذلك اليوم المشهود. يعتادني في هذا المقام النبيل موقف الأستاذ الجليل محمد عثمان يس وهو إبن هذه المنطقة، وأول وكيلٍ سوداني لوزارة الخارجية، عندما أصرّ على موقفه بالدراسة الجامعية في لندن أمام السكرتير الإداري المُهاب وقتها، السير جيمس روبرتسون، وموقفه الثابت بعد عودته منتصراً بالشهادة الجامعية للعمل في دواوين الاقتصاد أولاً وتفوقه على مديره البريطاني مما أهلّه للعمل بالإدارة العامة للبلاد. وعندما اضطُرّ روبرتسون لفتح قُنصلية عامة بأسمرا، لم يجد غير الأستاذ محمد عثمان يس ليبعث به إلى هناك مُديراً لها نسبة لمهارته ونزاهته وحُسن تصرفه وحكمته. ولهذا عمد الرجل على البقاء وكيلاً دائماً لوزارة الخارجية بعد الاستقلال لتدريب وتأهيل الدبلوماسيين لأجيالٍ متعاقبة وحُجته في ذلك: إن السودان لهو غنيٌ ومنيعٌ بثروته البشرية مُمثلةً في دبلوماسييه الأشدّاء الحُكماء ذوي الرأي السديد والمُقدّر بالمعاقل السياسية العالمية، والمرغوب دولياً بغرض التنمية وفض النزاعات وإحكام القانون ونشر الإستنارة في مُختلف بقاع الدُنيا. رحم الله الأستاذ محمد عثمان يس، الرجل الكبير والخالد بسيرته العطرة وتُراثه المتنوع بين أهل السودان على امتداد الأزمان.