د. ياسر يوسف يكتب: العهد الذي بيننا و(القوي المدنية)

العهد الذي بيننا و ( القوي المدنية )
ياسر يوسف
لفائدة هذا المقال سأعني بالقوي المدنية تلك الأحزاب السياسية التي تحاول إحتكار هذا الإسم الرنان ( القوي المدنية ) من تحالف الحرية والتغيير ( وتحوراته المختلفة ) فيما بعد ، أما نحن فأقصد به التيار الوطني الواسع الذي يختلف مع تلك الأحزاب في عدد من القضايا الجوهرية ..
وما يبعث علي كتابة مثل هكذا مقال هو البحث عن المشتركات في العمل الوطني لتجاوز حالة الإستقطاب الحاد التي ظلت صفة ملازمة للعمل السياسي السوداني ، والتي كانت نتيجتها إنحدار الفعل الوطني لقاع المعارك الصفرية وتبني ثقافة التدمير الشامل لمن يختلف معك في الرأي السياسي ، أو كما قال الأستاذ أبوالقاسم حاج حمد ( إما أن تكون السلطة لنا كاملة أو لا تكون لأحد ) ، وإذا تمعن الفرد في هذه الثقافة المتجذرة بموضوعية و ( عقل ذكي وقلب تقي كما قال الشيخ الغزالي وهو يصف الإسلام ) سيصل لنتيجة مخيفة ، مفادها أن الذي يفكر بهذه الطريقة بحاجة لمصحة نفسية تعالج امراض القلوب ، وليس لحوار سياسي وطني تقوم أعمدته علي النسبية والخطأ والصواب ، وتعالج أخطاؤه بالتصويب والتسامح وحتي العقاب المتناسب مع الخطأ ، وليس بالإستئصال والرفض المطلق ..
مشكلة المختلفين في السياسة السودانية أنهم ورثوا مفاهيم خاطئة من جيل الإستقلال مما رأوها فضائل فعمقوا مجراها ورسخوا ثقافتها ، كمفهوم أن السياسي الحذق هو الأكثر قدرة على حياكة الألاعيب المؤذية للآخرين ، أو في أفضل الأحوال هو ذلك المفوه الخطيب الذي يجيد رص الكلمات بينما لا علاقة له بال ( know how ) للعلوم المفيدة ، ولا يستطيع تحويل خطبه تلك لمشاريع منتجة يمكن حسابها بعائد الربح والفائدة ، ونتيجة لذلك نشأت الطبقة السياسية في بلادنا معتمدة على الدولة في كل شيء ، تتقاتل منذ الإستقلال من أجل الكرسي ، في الوقت الذي تركت فيه الحقول والمصانع والجامعات تتراجع تحت ضغط الإهمال والسياسات الخاطئة..
علي أن أكبر الخطايا التي نمت وسط هذه النخبة هو إزدراء الفضائل الوطنية وتحويل السياسة إلي ممارسة ليس لها علاقة بالأخلاق ، ولا تحد ألاعيبها سقوف وطنية ، ولا يتحرج السياسيون من إتيان الموبقات الوطنية ( وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) ، ويمكننا هنا إحصاء بعض هذه الموبقات التي نري أن مرتكبها يستحيل الإطمئنان له ، ناهيك عن تسليمه أمامة الوطن وخزائن المعلومات الحساسة ..
أولا الإستنصار بالأجنبي :
مشكلتنا مع ( القوي المدنية ) هو أن مشروعها لحكم السودان هو مشروع خارجي بإمتياز ، مشروع صمم بالخارج ليخدم أجندة الخارج الثقافية ومصالحه المادية ، ومنطلقات ذلك المشروع تصادم ثقافة أهل السودان ومرتكزاتهم الفكرية ، وقيمهم الراسخة ، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية هو مشروع ثبت وبالدليل القاطع والبرهان الساطع أنه مشروع متآمر علي السودان يعمل علي زرع الفتن بين مكوناته وتأجيح الخلاف فيه ، والسعي المتواصل لإبقائه متخلفا ، موصوما بالحروب والنزاعات ، والهدف من ذلك معروف ومنشور في أكثر من وثيقة وهو الوصول في النهاية لتقسيم السودان ولكن بعد تدمير أي إمكانية لنهوض الأجزاء المقسمة من جديد ، وللأسف الشديد ومنذ التغيير الذي تم في أبريل 2019 تسارع تنفيذ هذا المشروع ، وأصبح وكلاؤه يعملون بالمكشوف ، وخلال تلك الفترة تمت إستباحة الدار السودانية للوثائق واختفت منها وثائق تاريخية مهمة ، كما تم سرقة ( فلاش ) من مكاتب ( لجنة التمكين ) يحوي جميع المعلومات الإقتصادية لتاريخ السودان بما فيه موارد البلاد ومنصرفات الأجهزة الأمنية والعسكرية ، ( لاحقا ظهر تقرير من مؤسسة أمريكية وردت فيه معلومات تشبه تلك المعلومات المسروقة ) ، كما تم إستقدام البعثة الدولية التي ساهمت في تعميق الإنقسام السياسي والفتنة الإجتماعية ثم الحرب لاحقا ..
ثانيا الموقف من قضية الأمن القومي :
وهو شبيه بالموقف الأول ، ولكننا نعني هنا الموقف من القوة الصلبة التي تحافظ علي كيان السودان كدولة ذات سيادة ، للأسف تبنت تلك القوي سردية بعض القوي الخارجية التي تقول إن المنظمة العسكرية والأمنية في البلاد منظومة مؤدلجة ويجب تفكيكها ، وما ذلك إلا لتيقنهم من أن تلك المنظومة هي الحارسة للسودان ولقيمه وثوابت أهله ، والحريصة علي سيادته ، وتحت ذلك الإدعاء تم التآمر علي القوات المسلحة سرا وجهرا ، وتم ترويج المزاعم الباطلة بحقها ، وعلي الرغم من أن عاقبة تفكيك الجيوش الوطنية بينة في أكثر من بلد إلا أنهم تمادوا في الكيد للقوات المسلحة ، ومهما حاول المرء تكييف موقفهم ذاك لن ينتهي إلا إلي أنهم يخدمون مشروعا خارجيا معلنا يقف ضد الجيش ويسعي منذ أمد بعيد لتفكيك هذا الجيش وترك البلد بدون أنياب ليسهل تنفيذ مشروع التقسيم دون عناء كما جاء في محاضرة آفي ديختر وزير الأمن الإسرائيلي الأسبق ملخصا إستراتيجية إسرائيل تجاه السودان بعد فصل الجنوب ( سودان هش ومجزأ خير من سودان قوي وموحد ) ..
ثالثا الموقف من الحريات العامة
نعم عزيزي القارئ الموقف من الحريات العامة ، لقد نجحت هذه القوي الصغيرة المستندة للخارج في خداع الرأي العام مستغلة آلتها الإعلامية المسنودة بالدعم الخارجي أن تصور للناس أنهم دعاة الحرية والديمقراطية وبالتالي لهم الحق في إحتكار وصف القوي المدنية خالصا من دون ( مولانا جعفر الميرغني والتيجاني السيسي ومبارك الفاضل وطيف واسع من القوي السياسيه والمدنية وتيارات إسلامية وليبرالية ) بل وظلت هذه القوي ترفض ومنذ زمن الإنقاذ أي دعوة صادقة للتلاقي الوطني وذلك لسببين رئيسيين ، الأول هو توجيهات أصحاب مشروع إضعاف السودان ، والثاني خاص بهذه القوي التي تعيش داخل تصورات أيدولوجية منغلقة ومتطرفة لا تعطي الآخرين حق الإختلاف معهم ، ولا تفكر في وجود دنيا ووطن يمكن أن يستوعب المختلفين في السودان ( راجع تصريحات محمد الفكي ، وجدي ، خالد عمر ) عن إمكانية التعايش مع الإسلاميين ، وبعد وصولهم للحكم نفذوا ديكتاتورية ( مدنية ) تتقاصر الديكتاتوريات العسكرية عن بلوغ جرائمها وتوحشها ..
تلك بعض أمهات الجرائر التي ترتكبها ( القوي المدنية ) بإصرار لا تحمل عافيته إلاعدم التعايش السلمي بين المكونات المختلفة. ، ولذلك فإن أي دعوة للحوار الوطني ينبغي أن تكون شروطها الإبتدائية أن تتخلي هذه القوي عن هذه الخطايا كعربون وطني ، وبعدها فإن قضايا من شاكلة الدستور ، وشكل الحكم ، والعدالة وغيرها مقدور عليها .