في أدب الرحلات: حين رد علينا جورج الخامس تفضّلا سيف العزّ والشرف!

ولألوان كلمة:
في أدب الرحلات: حين رد علينا جورج الخامس تفضّلا سيف العزّ والشرف!
ظلت مجالس السودانيين الخاصة والعامة منذ أوائل العشرينات حتى إعلان الاستقلال وما بعد ذلك لا تنقطع عن سرد وقائع زيارة وفد الطوائف والأعيان ورؤساء القبائل لإنجلترا عام 1919م لتهنئة مليكها جورج الخامس بانتصاره على دول المحور بقيادة ألمانيا وتركيا الخلافة. وقد نسجت عشرات الحكايات والأقاصيص والنوادر حول هذه الزيارة الخطيرة والمثيرة، وكانت في ظن كثير من الوطنيين أن الصفة الصادقة حولها أنها كانت زيارة خيانة واستسلام وطعنة نجلاء في قلب النضال الوطني.
وما زالت الكتابات تثور وتدور بين قادح ومادح وبين بين، وقد كان من نجوم تلك الرحلة التي بدأت حتى بورتسودان بالقطار ثم بالباخرة حتى بريطانيا العظمى السادة علي الميرغني ممثل طائفة المراغنة عبد الرحمن المهدي ممثل طائفة الأنصار والشريف يوسف الهندي ممثل طائفة الهندية (إن صحت التسمية). وتقدم العلماء الشيخ علي الطيب أحمد هاشم (المفتي) والشيخ أبو القاسم أحمد هاشم رئيس لجنة العلماء، والشيخ إسماعيل الولي ومن زعماء القبائل علي التوم وإبراهيم موسى وعوض الكريم أبوسن وإبراهيم محمد فرح.
ومن غرائب هذه الرحلة أن السيد إسماعيل الولي اصطحب معه حفيده السيد إسماعيل الأزهري وكان طالبا بالسنة الثانية بكلية غردون وكان دون السابعة عشر من عمره حيث كان مساعدا ومترجما لجده بل تطوع بالترجمة لكل الوفد ومعه الأستاذ حسين شريف صاحب حضارة السودان مرافقا ومترجما للسيد عبد الرحمن ومحمد الحاج مترجما للشيخ المفتي. وقد كان عراب الرحلة من الخرطوم حتى لندن مستر ويلث مدير قلم المخابرات الذي اشرف على ترتيب البرنامج واحكام الكلمات والزيارات الدالة على الخضوع والولاء المطلق للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.
أنزل الوفد كما تقول صحافة تلك الأيام في معسكر للجيش الانجليزي خارج لندن ونقلوا بعدها للفنادق وتم ترتيب اللقاء مع جورج الخامس ومعه الملكة في قصر باكنجهام وقد تولى وينجت باشا الترجمة من العربية للإنجليزية وكانت كل الكلمات في دائرة الولاء والخضوع واستدرار العطف وإحسان النية بشرف النزول الكامل الشامل للاستعمار في مركزه الأعلى بلندن ومركزه الأدنى بالخرطوم وقد نال أعضاء الوفد طائفة من النياشين والأوسمة والكسوة الملكية الموشحة بالصليب تلك العلامات التي بصمتهم بالخضوع والإستسلام وذريتهم إلى يومنا هذا. وكانت مفاجأة اللقاء مع الملك جورج الخامس ذلك السر والموقف الذي أخفاه السيد عبد الرحمن بعناية عن كل أعضاء الوفد، فحينما انتهت كلمته المتسمة بالولاء للأمبراطورية أخرج سيف والده الإمام المجاهد محمد أحمد المهدي وقد صنع له مقبضا من ذهب وقلائد من تبر خالص وسلمه في إنحناءة موثقة للملك جورج الخامس والملكة قائلا: هذا سيف أبي أقدمه هدية لكم دليلا على طلب رضائكم واستسلامنا لكل أواصر الخضوع والإلتزام برغبتنا في الولاء المطلق لكم (وقد حاولت جهد المستطاع أن أخفف مفردات السفور المعبرة عن الخضوع والإستسلام رأفة بقلوب المريدين والأتباع والأحفاد).
أعجب الملك جدا بالكلمة والموقف والهدية ورد عليه بكل الخبث الاستعماري الاستعلائي الشهير والمعهود: لقد قبلنا منك الهدية شاكرين ولكننا نرد السيف إليك لتحمي به إمبراطورية بريطانيا العظمى وسط أهلكم وبلادكم.
ورغم ما أحدثه الموقف من ألم لاحق ومواجع وهجوم كاسح على السيد إلا أن الغريب في الأمر هو تلك الغضبة المضرية للسيد علي الميرغني الذي رأى في تسليم السيف دليلا على إخلاص الأنصار أكثر من المراغنة على قلب مليك النصارى، وكما يقول العامة من السودانيين أن (ود المهدي سرق اللقطة يومها من ود الميرغني) مع أن لسان حال السيد عبد الرحمن كان يقول بلسان أحمد بن الحسين المتنبيء:
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا باك منه محسود
وبرغم كل ما أهرقته الطائفية السياسية من أحبار ونشرته من أوراق وبذلته من مال لصحفها وكتابها لم تستطع ان تزيل هذه الوصمة عن جبين تكويناتها وأحزابها وحكوماتها المتعاقبة إلى يومنا هذا. وبكل ما بذلته صحافة النيل والأمة والعلم وأنباء السودان والمتخفيات من الأوراق إلا أن الفشل كان حليف كل هذه الحملات. وتظل أنجح المحاولات في الدفاع عن السيد عبد الرحمن أبيات عكير الدامر الشهيرة التي فاقت مئات المقالات والمنشورات في ذكائها وحيلتها:
جهاد المهدي سيف سلّاهو ألمع ضاوي
وحكّمو في الرقاب الفي الشرع بتلاوي
وإنت جهادك اللِين بالهداية تداوي
مختلفه السيوف إلا الضرب متساوي
أما بيت القصيد في هذه الرحلة فهو أن أحد أعضاء الوفد كان يسامر الشريف يوسف الهندي الساخر وقد لاحت لهم أضواء الإسكندرية وقد كان طريق العودة عبر مصر الشقيقة، فباغته بسؤال متداول: ترى ما هو الحل الأمثل لمشاكل أهل السودان يا سيادة الشريف؟ فرد عليه الشريف ضاحكا: إذا غرقت هذه السفينة بمن فيها..!!