الطيب صالح .. رحلة حياة من كرمكول إلى لندن

في الذكرى ال (16) لرحيله

الطيب صالح .. رحلة حياة من كرمكول إلى لندن

كتب: كمال عوض

«الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اثنين .. الصداقة والمحبة. ما تقول لي لا حسب ولا نسب، لا جاه ولا مال .. إبن آدم إذا ترك الدنيا وعنده ثقة إنسان واحد، يكون كسبان. وأنا، المولى عز وجل أكرمني بالحيل. أنعم علي بدل النعمة نعمتين .. أداني صداقة محجوب وحب فاطمة بت جبر الدار».
الطاهر ود الرواس يخاطب محيميد في الجزء الثاني من رواية ضو البيت «مريود».

× مولده ودراسته:

وُلِد الطيب صالح واسمه الكامل الطيب محمد صالح أحمد، في إقليم مروي شمال السودان بقرية كَرْمَكوْل بالقرب من قرية دبة الفقراء، وعاش مطلع حياته وطفولته في إقليم مروي. وحصل على الثانوية العامة من المنطقة، وانتقل إلى ولاية الخرطوم لإكمال دراسته، ودراسة تخصص الزراعة من كلية غردون التذكارية، جامعة الخرطوم لكنه لم يكمل دراسته في النهاية. ثم عَمِل مدرساً للصفوف الإعدادية لفترةٍ من الزمن حتى سافر إلى إنجلترا ليواصل دراسته في جامعة لندن، وغيّر تخصصه إلى دراسة الشؤون الدولية السياسية.

× عبقري الرواية العربية:

وفي 18 فبراير من عام 2009م أغمض الهرم السوداني والأديب العالمي الأستاذ الطيب صالح عينيه إلى الأبد في العاصمة البريطانية لندن بعد عمر ناهز الثمانين عاماً قضى معظمها بين الأوراق والكتب والمراجع وحبر المطابع. فاضت روح «عبقري الرواية العربية» في أحد المستشفيات وسط البرد والصقيع بعد أن قذفت به الأقدار إلى هناك وهو الذي ولد وعاش في «كرمكول» بالولاية الشمالية، وخبر نخيلها وجروفها وسواقيها ولياليها وشخصوها وديارها.

× ذكرى منسية:

تطل علينا ذكراه هذه الأيام ونحن مشغولون عنه بأمور شتى، تحبسنا عن الاحتفاء بأعماله، إلا من فعالية يتيمة ترعاها إحدى الشركات، وهو الذي ملأ الدنيا دهشة وصخباً وضجيجاً وجدالاً بأطروحاته وأفكاره التي زاحمت أشهر الروايات في أرفف المكتبات ودور النشر العالمية. قبل سنوات طويلة ونحن على أعتاب المرحلة المتوسطة، خصني صديق بكتاب من الحجم المتوسط، وقال وهو يتلفت يمنة ويسرى، وكأنما يمنحني شيئاً من الممنوعات: (خبئه وأحذر أن يراه أحد معك). ذهبت والحيرة تسيطر على خطواتي. لأول مرة لا أحس بأنني عثرت على كنز ثمين، لم ينتابني ذلك الفرح الذي يملأني حد الدهشة كلما عثرت على كتاب جديد. ربما الحذر الزائد الذي أبداه من أعارني الكتاب، جعلني أحس أن ما بداخله خطير ويدخل في دائرة المحظورات.

× عوالم عصية:

في ليلة مقمرة، وعلى تلة من الرمال بعيداً عن الأعين، بدأت أطالع الأحرف الأولى من رواية (موسم الهجرة إلى الشمال). لم أستطع في القراءة الأولى الدخول لعوالم مصطفى سعيد وجين مورس وآن هنمد وايزابيلا سيمور، وبقية أبطال الحكايا والمشاهد التي حوتها السطور، من أمثال ود الريس وحسنة بت محمود، ولم يستوعب عقلنا الصغير بعد، مثل هذا الأسلوب من الكتابات. كانت تستهوينا كتب المغامرات التي تأتينا عادة من مصر بأبطالها الذين تقارب أعمارهم أعمارنا، ولكن الخوف والحذر اللذين زرعهما صديقي في داخلي تجاه موسم الهجرة إلى الشمال، جعلني أعود من جديد بعد سنوات لأعيد القراءة مستصحباً كل كتب الطيب صالح (ضو البيت، دومة ود حامد، مريود وعرس الزين).

× اهتمام داخلي وخارجي:

أعمال الأديب العالمي حظيت باهتمام كبير على المستويين الداخلي والخارجي، وتم تحويل رواية «عرس الزين» إلى فيلم سينمائي ومازال أبطال رواياته يمشون بيننا وكأنهم شخصيات حقيقية. وأذكر في سلسلة مقالات لأستاذنا الراحل محمد طه محمد أحمد نشرت بصحيفة (الوفاق) قال فيها ان أبطال روايات الطيب صالح معظمهم حقيقيون، وعاصرهم الراوي في حقبة من الحقب وانصهر معهم في مجتمع القرية، لذلك نجده يتحدث عن بعض التفاصيل وكأنها شريط من الذكريات الممتدة يستعيده الكاتب وهو يغوص في عوالمه الخاصة.

× رواية مثيرة للجدل:

موسم الهجرة إلى الشمال الرواية المثيرة للجدل، قال عنها كاتبها إنها جلبت له المتاعب، كما جلبت له الكثير من الشهرة، بينما لم يحقق مكاسب مالية من طبعاتها الكثيرة، لأنه يكتب رغبةً في الكتابة لا من أجل المال. وتمت ترجمة الرواية إلى لغات عديدة، وحققت انتشاراً غير مسبوق في الدول الغربية، ولكن في روسيا كان الأمر مختلف جداً، حينما قام فلاديمير شاغال، بترجمة وطباعة (موسم الهجرة إلى الشمال). وفلاديمير هو أحد أشهر المستعربين الروس الذين يعملون في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الروسية. وفي الطبعة الأولى، أخرج شاغال مائة ألف نسخة للأسواق نفدت جميعها، فقام بطباعة مائة ألف نسخة نفدت أيضاً، ليطبعها مرة ثالثة بسبعمائة ألف نسخة. وهو رقم ضخم في مجمله اقترب من المليون نسخة. ويقول عنها فلاديمير: (لقد لعبت الرواية دوراً كبيراً في تغيير مفاهيم سكان تلك البقاع عن العرب والمسلمين ككل، وفتحت الباب واسعاً أمام كتب وترجمات أخرى وجدت حظها من النشر والانتشار).

× غرفة لندن:

في عدد قديم من مجلة (الدوحة)، يعود لثمانينيات القرن الماضي، قال الأديب جبرا إبراهيم جبرا في حوار ثر: (في غرفة صغيرة تطل على نهر التايمز حبسنا الطيب صالح ليكمل روايته موسم الهجرة إلى الشمال). تذكرت هذه الكلمات في زيارتي لـ (لندن)، وعيناي تبحثان في البنايات المطلة على النهر، عن نافذة أطل منها وجه أديبنا العالمي!!. ربما من هذه أو تلك تسللت إلى أذنيه دقات (بيغ بن). هل إلتقت عيناه بـ (عين لندن)؟ تلك الساحرة التي تدور ببطء لتكشف روعة المدينة وتلتقط حراكها وسكونها؟.

× رحلة طويلة:

بدأ الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال)، من بلدة صغيرة عند منحنى النيل، وأكمل فصولها على ضفاف (نهر التايمز). رحلة طويلة قطعها مصطفى سعيد نهل فيها من نهر النيل، وصار يبحث عن من يروي ظمأه في ديار بعيدة دون جدوى، ليعود إلى ضفاف القرية من جديد، وتغوص جثته في أعماق النيل دون أن تطفو أو يوجد لها أثر.