حكاية سودانية .. الوسخ خشم بيوت

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
حكاية سودانية
الوسخ خشم بيوت
في أحد أحياء مدينة بحري العريقة ذات الطابق الواحد والطابع الشعبي والتي بدأت العمارات السكنية المتعددة الطوابق تزحف عليها شيئاً فشيئا حتى صارت بيوت متوسطي الحال أو الدخل تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ وأصبح أصحاب البيوت الشعبية يلوذون فراراً من حصار المقارنة والإنكشاف.
أقام أحد الأثرياء الجدد – الذي إمتهن البزنس وكان قبلها مديراً لمنظمة غوث أوروبية تعمل في كل شئ إلا إغاثة الإنسان – منزلاً فخماً متعدد الطوابق وأصبح مزاراً للمشاهدة والتأمل لأهل الحارة الأثرياء والفقراء والمغادرين. كان حاج أحمد صاحب دكانة التِشاشة والتوابل بسوق الخضار ببحري جار قصي الرجل الثري الملاصق تماماً، صحيح أن السحنة للجارين كانت واحدة من حيث الوجه واللون والقوام والجنسية السودانية، إلا أن كل شئ بعد ذلك مختلف تماماً، السلوك والتقاليد والأعراف والأسرة. كان حاج أحمد وأسرته من أبناء وبنات يداومون على الصلوات الراتبة بالمسجد والتلاوة والحفظ وبذل النفس لصالح الآخرين في السراء والضراء، وظل الجار الثري ليس له من كل هذه الطيبات حظ أو نصيب، ولا لعائلته المتفرنجة، فلم يعهد عنهم أنهم زاروا في الحارة يوماً مريضاً ولا شهدوا فرحاً ولا شاركوا مأتماً ولا ساهموا في عمل خيرٍ عام أو خاص.
عدة سيارات فاخرة أمام القصر المهيب وزوجة تلبس من الثياب ما خلعته الشوارع العربية منذ السبعينيات فليس على الرأس طرحة ولا على الجسد الفائر ثوب وتركت الشعر حراً للنسائم والأنواء، أما بناتها فحدث ولا حرج وقد إتخذ الأبناء ساحة المنزل مجلساً للسُكر والعواء وازعاج الشارع والجيران بالقهقهات الفاجرة المريضة. زيارةٌ واحدة كان الثري الحالم بالخلود يداوم عليها لجاره الفاضل الزاهد ويجلس معه يوماً بعد يوم لأكثر من ساعة يغريه ببيع منزله لأنه يريد أن يمده حديقةً خلفية لقصره، وظل حاج أحمد يتأبى في شمم معللا ذلك بأن هنالك أشياء لا تقدر بثمن لأنها متعلقة بالعرافة والأصول والذكريات وأنه لن يبيع منزل الأسرة مهما احتاج ومهما دفع الآملون في القطعة المتميزة في ناصية الشارع الكبير. وفي إحدى الأيام دخل عليه بلا استئذان بعد أن دفع على باب الحديد القديم، فوجد حاج أحمد تحت شجرة النيمة الظليلة وسط داره وقد اجتمع حوله رهط من أهله القادمون من قرية بعيدة وقد بان عليهم رهق السفر وتراب الرحلة فأصبحت وجوههم وثيابهم في حالة يرثى لها، ولكن رغم ذلك بانت أوجههم متهللة بالبِشر والترحاب الذي قابلهم به حاج أحمد وأسرته الكريمة وظلوا يساءلونهم في محبة عن أهل القرية منزلا منزلا، ويضحكون في مرح ينبعث من القلب مباشرةً كل ما جاءت سيرة حكيمٌ أو ظريفٌ من البادية. ظل الثري المستلب مذهولاً وهو يشاهد حاج أحمد ود البندر وهو في أحضان أهله وبقربهم يتلذذ باللحظة ويمسك بها كأنه خائفٌ أن يغادروا أو تغادر، فنادى عليه دون أن يدلف إلى ظل النيمة خوفاً على يده من السلام وثيابه من الإرتطام بعجاج وكتاحة السفر الطويل، وعندما رفض الإلتحاق بالمجلس رغم طلب حاج أحمد الملحاح له بشرب كوب من الشاي مع مجلسه المأهول نهض إليه بترحابه المعهود وعاتبه على عدم مشاركته الجلسة والشاي المضمخ بالنعناع والذي عرفت حاجة نفيسة بصناعته وصياغته وكانت صدمة حاج أحمد بالغة عندما قال له جاره الثري: لقد ضاعفت لك ثمن القطعة ثلاثة أضعاف فما قولك؟ لم يرد حاج أحمد ولكن اكتفى بتقطيبة وجهٍ حزينٍ وغاضب كانت تكفي لإغلاق باب الصفقة المستحيلة، فإذا بالثري غريب الوجه واليد واللسان يصدمه بسؤال آخر قبل أن يجيب على الأول: (إنت يا حاج أحمد رجل اشتهرت بالنظافة والثياب البيضاء، فكيف احتملت الجلوس مع هؤلاء الوسخانين؟). غضب حاج أحمد غضباً شديداً حتى احمرت أعينه وضجت مشاعره بالثورة وأصبح يرتجف كالريشة في مهب الريح، وعندما هم بصفعه صفعةً مزلزلة لا يعرف أحداً عواقبها أدركته تربيته السنية وحقائق ورقائق سلوكه الصوفي الزاهد وأطلت على قلبه المفجوع أوامر المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تغضب). فتمالك نفسه وقال بلغةٍ هادئة لكنها انطلقت كالرمح المسدد المسموم إلى قلب ذلك المفتري: (الوسخ يا سيادة الأفندي هو الوسخ الما بمرقو الصابون). وما أن أكمل الرمح مكمنه القاتل في قلب وعقل جار السوء حتي هرول خارجاً لا يلوي على شيء ولم يعد بعدها ولم ولن يكرر المحاولة