حكاية سودانية .. بين كِسرة نيروبي وكنافة ثمود

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

حكاية سودانية

بين كِسرة نيروبي وكنافة ثمود

جلست صامتاً لكنني كنت منتبهاً لحوار ساخن بين مجموعتين من الصحفيين الشباب وهم بتجادلون حول الخلافات الفكرية والسياسية والبنيوية ما بين عصابة نيروبي وعصابة ثمود والفرق ما بين عبدالرحيم دقلو وعبدالله آدم حمدوك وهل الفروقات كامنة في النوع أم في المقدار؟ وقد طال النقاش واستطال واستدار وتربع وتوازى وعاد من جديد إلى نقطة الصفر، وحينما أرهقهم الجدال تحول الصراخ الي همهمات وقد أعيتهم الفتوى وضاع عنهم سواء السبيل. حينها انتبهوا لصمتي المربيب أو الحميد لا فرق، وقالوا: بصوت واحد ومفردات مختلفات: لن نسمع منك يا أستاذ رأياً في موضوع الساعة والفروقات بين عصابة نيروبي وعصابة ثمود وسمسارها، قلت لهم: الفرق بينهم مجرد ضمة ولم أزد، فأغرتهم الكلمة للتفسير والإيضاح. والسودانيون مغرمون بطبعهم بفك الطلاسم والبحث عن “شليل” ومفتاح الكنز المخبوء، فطالبوني بإلحاحٍ لتفسير أمر هذه الضمة العجيبة! وزيادة في التشويق فقد صمت قليلا حتى جحظت أعينهم وسال لعابهم. هناك حكاية لطيفة وموحية تحكي عن مجموعة من الصبية كانوا يحفظون ويتدارسون القرآن عند شيخٍ عالمٍ وزاهد له مسيد في طرف قرية كبيرة أو مدينة صغيرة وكان له “قدح” خشبي وهيط به عصيدة متماسكة المسام لا يظهر على سطحها أصابع الكتكوت ولو ظل يلعب فيها يوماً بحاله وكانت تغطي طبقتها الأولى ملاح من البامية الناشفة وحين يصاب الشيخ بسعادة الرزق يخلطها ببعض الدهن والقديد وهي وجبة تتكرر في الشهر ثلاثين مرة، أعيتهم فيها الحيلة وأجبرهم عليها “الجوع الكافر” والاصطبار علي القرآن حفظاً وتجويداً وكل واحد منهم يأمل بأن يصير “شيخ الزين” القادم. في احدى الأيام اقترن الشيخ بعروس صبية ومليحة وكريمة فأحبت أن تغير في ذات يوم من أيام الدهر المعدودات وجبة هؤلاء الفقراء من (الحيران)، نسينا أن نذكر بأن أحد هؤلاء الصبية من حلقة الحفظ كان له إبن عم في قلب القرية له قدرة فول شهيرة زاكية الطعم والمقدار وحين يأتي موعد القدح العتيق كان يتسلل بهدوء إلى ركن قصي من المسيد حتى إذا ما بدأ هؤلاء المساكين في معركتهم المقدسة مع قدح العصيدة غادر في صمت بلا اسنئذان إلى وجبة الفول التي كان يكرمه بها إبن عمه يوماتي. ويبدو أن العروسة كانت سعيدة بمولانا ونفقته وأنسه فأعدت طعاماً من الفطير باللبن في قعر القدح وملأته بعد ذلك تماماً بكمية مقدرة من الكنافة التي كانت تجيد صنعها ورشتها بالعسل والسمن والمكسرات، وحملها اثنان من الحيران إلى مكان الوجبة المعهود حينها تسلل صاحب الفول إلى الركن القصي حتي يبدأ هؤلاء وجبتهم القاسية فيلوذ فراراً إلى عهدته عند إبن عمه وقبل مغادرته لحظ أن مجموعته من الصبية كان على وجوههم بِشرٌ غير معتاد وإبتسامات فرح مرسومة بعناية كانوا يخفونها في خبث وهم يدارون عنه المفاجأة فقال لهم بصرخةٍ متساءلة: ماذا تأكلون؟ فأجابه كبيرهم تقاً وتعففاً: ماذا نأكل! هي وجبة حرف الكاف، فقال لهم ساخراً: فليبارك لكم الله في الكسرة التي كسرت أفئدتنا ومعدتنا وعندما تأمل صمتهم وضحكاتهم الصغيرة المتكسرة أدرك أن في الأمر عجب وفي تدبيرهم لغز، فهجم عليهم هجمة الأسد الضاري وكانت خيبة أمله كبيرة حين لم يجد في قرار القدح إلا لقمة واحدة من الكُنافة فأشتشاط غضباً وقال لهم مؤنباً وشاتماً: لماذا لم تخبروني؟! فقال أحدهم مبتسماً وساخراً: “ما قلنا ليك بالكاء”. فرد عليه وقد لطمه لطمة مؤلمة وعنيفة: دي ما بالكاء دي (بالكو)، فضج الجميع بالضحك وأصبحت النكتة المتداولة عند أهل القرية والمسيد.
ولأن الشئ بالشئ يذكر فيبقى الفرق بين العصابتين كاف الكسرة الذي يبدأ بالإنكسار وكاف الكنافة الذي ينتهي بضمة الإنحسار