د. بدرية سليمان تكتب: المحكمة الجنائية الدولية ودورها في إعاقة السلام في السودان (3)

المحكمة الجنائية الدولية ودورها في إعاقة السلام في السودان

بقلم: مولانا دكتورة بدرية سليمان (3)

× التكييف القانوني لقرارات مجلس الأمن بشأن المحكمة الجنائية:

القارئ لنصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لابد وأن يلاحظ إن إحالة مجلس الأمن متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة إحالة إلى المدعي العام للمحكمة يشترط فيه استيفاء نص المادة 4(2) من النظام الأساسي كما ذكرنا بأن تكون تلك الدولة أما منضمة أو قبلت اختصاص المحكمة بإعلان سلمته لمسجل المحكمة. فنص المادة 13 (ب) لابد أن لا يتعامل معه علي إطلاقه دون النظر للنصوص الأخرى الواردة في النظام الأساسي والقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات للمحكمة الجنائية الدولية .. وواضح أن الفصل الثالث قد جاء خلواً من أية إشارة لإحالة دولة غير طرف في نظام روما الأساسي رغم أن القاعدة 44 تتصل بالإعلانات والإحالات المتصلة بالمادة 13 وغيرها من المواد إلا أن كل الفصل الثالث بأقسامه الثلاث لم يفصل أي إجراءات بعينها تتخذ في مواجهة دولة غير طرف أو غير معلنة بقبول اختصاص المحكمة الجنائية الدولية مما يؤكد أن مجلس الأمن من المفترض أن لا يحيل إلا وفق المادة 13(ب) مقروءة مع المادة 4(2) من النظام الأساسي وهذا الأمر يبرره مبدأ رضائية المعاهدات الذي أرسته اتفاقيتا فينا لقانون المعاهدات الدولية لسنة 1969 و1986 إذ أن الدول الأطراف قد ارتضت بإرادتها أن تكون المحكمة الجنائية الدولية ذات اختصاص تكميلي لقضائها الوطني وليس سيادي عليه إذ أن جمعية الدول الأطراف لا تتنازل عن اختصاصها في محاسبة رعاياها لقضاء أجنبي وإنما تعتبر أن المحكمة الجنائية الدولية امتداد لولايتها القضائية فإذا قامت هي بواجبها في الاضطلاع بالتحقيق أو المحاكمة فلا ينعقد الاختصاص للمحكمة الجنائية .
أما إذا لم ترغب أو لم تكن قادرة علي القيام بذاك الواجب فيكون لها أن تحيل الأمر للمحكمة التي ارتضت اختصاصاتها بموجب انضمامها للنظام الأساسي. ولقد أكد هذا الرأي وأمن عليه المجلس الدستوري الفرنسي حيث قرر إنه ” إذا كانت الدولة غير راغبة في المقاضاة أو غير قادرة علي الاضطلاع بالإجراءات بسبب انهيار كلي أو جوهري لنظامها القضائي الوطني أو بسبب عدم توافره فلا يوجد تعارض مع الشروط الأساسية لممارسة السيادة الدولية ” كما ذهب مجلس الدولة الأسباني إلى ذات الرأي حيث قرر أن الحق الدستوري في الحماية القضائية الفعالة لا تقتصر علي الحماية التي تكفلها المحاكم الأسبانية وإنما يمتد إلى الهيئات القضائية التي تقبل اسبانيا باختصاصها ” مع العلم بأن كلتا الدولتين منضمتين لنظام روما.
عليه فإن الدولة المنضمة أو التي تقبل بالاختصاص هي التي يمكن أن يتولي المدعي العام التحقيق في حالة أحيلت له بخصوص أي منهما كما أن إحالة مجلس الأمن لأبد أن تكون لدولة طرف أو لدولة قبلت بالاختصاص لأن المحكمة الجنائية الدولية ليست أحد أجهزة الأمم المتحدة حتى يحيل لها مجلس الأمن حالة دولة عضو في الأمم المتحدة وليست عضو في المعاهدة المنشئة لتلك المحكمة الدولية ولم تقبل باختصاصها زد علي ذلك فإن اختصاصات مجلس الأمن قد أوردها ميثاق الأمم المتحدة في فصوله السادس والسابع والثامن والثاني عشر علي سبيل الحصر ولم تتضمن تلك الاختصاصات أي اختصاص يخول لمجلس الأمن إحالة عضو من أعضاء الأمم المتحدة ليعاقب رعاياه أمام جهة لم تشكل بواسطة أجهزة الأمم المتحدة وإنما هي جسم قانوني قام بموجب معاهدة لا تلزم إلا الدول التي انضمت إليها طوعاً أو قبلت باختصاصها باتفاق خاص.
كما أن الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة والخاص بالأعمال الجائز لمجلس الأمن القيام بها في حالات تهديد السلم أو الإخلال به ووقوع العدوان لم تتضمن أي تدابير يمكن لمجلس الأمن أن يتخذها استناداً إلى وثيقة قانونية غير ميثاق الأمم المتحدة.. بل أن الميثاق أشار في المادة الثامنة والأربعين منه أن الأعمال اللازمة لتنفيذ قرارات مجلس الأمن لحفظ السلم والأمن الدوليين يقوم بها جميع أعضاء الأمم المتحدة ولم تتطرق المادة لأي هيئات أو منظمات خاصة تضم أعضاء ارتضوا بموجب معاهدة دولية أن يخضعوا لها ليلزم أعضاء الأمم المتحدة من غير أعضاء تلك الهيئات أو المنظمات بأن يخضعوا لأحكامها لأن في ذلك مساس واضح بسيادة الدول التي لم تقرر أن تنضم لتلك المجموعة المتعاهدة ولم تقبل باختصاصات ألزمت تلك الدول نفسها بها.
نخلص من ذلك إلى أن مجلس الأمن بإحالته لحاله في دولة غير عضو في المحكمة الجنائية الدولية فيه تجاوز لاختصاصاته التي أرساها ميثاق الأمم المتحدة. وهنا يمكن القول بأن إحالة مجلس الأمن لحالة بعينها لدولة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 13(ب) من نظام روما هو أمر يقع خارج اختصاص مجلس الأمن وبالتالي يكون ذاك القرار لا قيمة له من ناحية القانون ويجوز التحلل منه حيث أن عيب التجاوز أمر يشوب القرار في ذاته وبالتالي يكون ذلك القرار عديم الأثر وليس في حاجة لإقراره من أي جهة أو أجهزة أخري ULTRA VIRES AND WITHOUT LEGAL EFFECT إلا أنه ولما كان ميثاق الأمم المتحدة لم يتضمن أي نص يتيح للجمعية العامة أو محكمة العدل الدولية حق مراجعة قرارات المجلس التي تمس الحقوق الأساسية لأعضاء الأمم المتحدة إلا إنه من الممكن لدولة عضو في الأمم المتحدة أن تطلب من محكمة العدل الدولية رأياً استشارياً إذ ما اعتقدت أن قرار مجلس الأمن ينتهك حقوقها الأساسية التي تتمتع بها بموجب قواعد القانون الدولي .
وأهم تلك الحقوق السياسية مبني علي مبدأ السيادة الذي يقوم علي أساس المساواة بين الدول من الناحية القانونية وتمتعها بالحقوق اللازمة للسيادة علي أراضيها وحرية وسلامة إقليمها واستقلالها السياسي وحسب البند السابع من المادة الثانية من الميثاق فإن الأمم المتحدة وبالتالي مجلس الأمن ليس لها أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما والأمر هنا يتصل بحق الدولة بإخضاع رعاياها للمحاكمة أمام قضاءها الطبيعي دون غيره طالما إنها لم تنضم لنظام روما للمحكمة الجنائية ولم توافق علي اختصاصها بمحاكمة رعاياها مما يمنع مجلس الأمن من أن يتعدي علي ذاك الحق ويجبر دولة عضو في الأمم المتحدة للخضوع لمعاهدة ليست هي من المنضمين إليها أو الراضين بالخضوع لإحكامها فيخل بمبدأ رضائية المعاهدات المقرر في القانون الدولي .
زد علي ما سبق فإن سلطة مجلس الأمن هنا تتعلق بالاختصاص الجنائي علي الأفراد وهي سلطة لو مورست علي إطلاقها لأصبحت أوسع من سلطات الدول الأطراف المنشئة لاتفاقية المحكمة الجنائية الدولية لأنه بمفهوم المخالفة ينعقد الاختصاص للمحكمة فيما تحيلها لها الدول الأطراف من جرائم إذا كانت دولة الإقليم أو دولة الجنسية طرفاً في النظام الأساسي أو قبلت باختصاص المحكمة في جريمة معينة ولا يلتزم مجلس الأمن بهذا القيد رغم أن اختصاصات مجلس الأمن حسب ميثاق الأمم المتحدة يمارسها تجاه الدول الأعضاء في الأمم المتحدة وليس رعاياها فهو يخاطب الدول وليس الأفراد .
ويبدو أن الإحالة المشار إليها في المادة 13 (ب) لا تعدو أن تكون لفت نظر للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ليبدأ المدعي العام في إجراءاته ويتأكد ابتداءً أن الدولة المحال أمرها طرفاً في نظام روما أو إنها أخطرت مسجل المحكمة بقبولها اختصاص المحكمة .
إلا أن أخطر ما مُنح لمجلس الأمن هو ما نصت عليه المادة 16 من النظام الأساسي التي تمنح مجلس الأمن سلطة المطالبة بوقف التحقيق في أي جريمة قيد التحقيق لمدة اثني عشر شهراً قابلة للتجديد إلى لا نهاية وأن يصدر هذا القرار بناء علي الفصل السابع من الميثاق وهذا تدخل لا مبرر له فالمحكمة الجنائية الدولية ليست من أجهزة الأمم المتحدة حتى يكون لمجلس الأمن سلطة عليها وهو بموجب هذه المادة يساعد في إفلات متهمين بجرائم وفق المادة 5 من نظام روما من العقاب لأسباب تكون في العادة سياسية وفي الأغلب تأتي من الدول الأقوى صاحبة حق الفيتو فتمنح صوتها لمحاباة طرف علي آخر أو تضن به وتمتنع عن التصويت مراعاة لمصالحها في مواجهة الكبار فيختل ميزان العدل ويفلت المجرمون من العقاب وتوقف التحقيقات إذا طالت من هو في موقع القوة والجبروت فتنزوي الدول الصغرى وتستكين وتستمر المعارك في العراق وفلسطين وأفغانستان وإسرائيل من قبل قوات دول محتلة ويموت الآلاف في الصومال وتنتهك حقوق الإنسان في أبي غريب وغواتينامو … الخ ويصدر مجلس الأمن قراره رقم 1422 في يوليو 2002 ليستثني فيه عناصر القوات الأمريكية والجنود الآخرين المشاركين في بعثة الأمم المتحدة في البوسنة والهرسك من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لمدة عام قابل للتجديد . وهذا القرار يشكل سابقة خطيرة تتعارض صراحة مع مقتضيات القانون الدولي الإنساني والقانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان وحتى أحكام ميثاق الأمم المتحدة لأنه قرار مختل وغير مشروع من الناحية القانونية إذ لا يجوز تغيير مقتضيات واردة بمعاهدة دولية بقرار من مجلس الأمن فضلاً عن إمكانية استخدام هذا القرار في أي نزاعات دولية متشابهة لو كان أولئك الجنود يتبعون لدولة منضمة أو قبلت الاختصاصات وارتكبوا من الجرائم ما يشكل إخلالاً بالقانون الدولي الإنساني.