ليلة جوبا اليتيمة وليلة نيروبي الأثيمة .. ما أشبه الليلة بالبارحة

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
ليلة جوبا اليتيمة وليلة نيروبي الأثيمة .. ما أشبه الليلة بالبارحة
١/ كانوا في كل مرحلة من مراحل تاريخ بلادنا المعاصر أقزاماً وكان لهم سيداً، مروراً بكتشنر الذي استخدمهم استخدام الدواب والأحذية القديمة. واستخدمهم من بعد ذلك قرنق فسوقوا له في السودان والعالم العربي والإسلامي وحاربوا معه وقبلوا (بوته) وعبدوا شعاراته، فلما انتهت مهمة خرقة المسح قذف بهم في مزبلة التاريخ وها هم يعاودون نفس الدور عبيداً في معية عبدالرحيم دقلو الذي ليس له من سمات الزعامة إلا المال الحرام، وعندما يكتمل الدور في الإستعمال ونظافة الواجهة المتسخة وتنال المؤامرة حظها من الأرض والثروة فسوف يطرد إبراهيم الميرغني وبرمة ناصر والوليد مادبو والنور حمد (طردة الأرازل) وسوف يوسمون في التاريخ السياسي المعاصر بأنهم أسوأ خلف لأسوأ سلف.. الرجاء قراءة القصة التالية وسوف تتنفس الصعداء قائلاً:”ما أشبه الليلة بالبارحة”. هذه الكلمات كتبت قبل فترة من الزمان غير البعيد ولكنها إلى اليوم معبرة عن العبرة والتدبر وكشف المستور.
كنت متيقنًا بأن الدكتور جون قرنق بحنكته العسكرية وإمكانياته الأكاديمية قد استطاع استخدام مجموعة من القيادات الشمالية السياسية والعسكرية لخدمة مخططه الإنفصالي، وقد تطابقت أحلامه في الزعامة مع أحلام الغرب في إقامة دويلة صندوق مسيحية صليبية تقف أمام المد الإسلامي المعتدل صوب شرق القارة وغربها وجنوبها. وكان لهم في تدابير قانون المناطق المقفولة في العهد الإستعماري أسوة حسنة.
2/ وكنت واثقًا بأن هذه القيادات قد رضيت بهذا الدور لهذا المخطط عن وعي إنقيادًا لشح النفس وبيع الخبرات لصالح مشروع القطب الواحد، وعالم المنظمات وحقوق الإنسان المزيف والفوضى الخلاقة.
وقد أحسست بكثير من الأسى وأنا أرى مجموعة التكنوقراط في قامة الدكتور منصور خالد والدكتور الواثق كمير والدكتور حيدر إبراهيم وفي معيتهم بيادق رقعة الشطرنج الآثمة من السياسيين اليساريين الذين باعوا أنفسهم تحت مسمى الليبرالية الجديدة بيسر وإرتخاص يحسدون عليه، والطائفيين والعسكريين الذين جمعتهم مقررات مؤتمر أسمرا المشترى. وكنت واثقًا من أن هؤلاء بعد أن أدوا دورهم المرسوم لهم في تسويق قرنق للعالم العربي والإسلامي والأفريقي وللعقل والوجدان الشعبي السوداني الداخلي سوف يرميهم أخيرًا في مزبلة التاريخ وسلة المهملات. وإن لم يفعل في حضوره الفيزيائي فإن تلاميذه قد قاموا بالمهمة بمنتهى الدقة والجدارة. وكذلك كنت حريصًا أن أعرف تفاصيل ليلة العرس أو بالأحرى نهار رفع المأتم وإسدال ستار العزاء على الحزن الكبير.
قال الشاهد إنه بعد إعلان نتيجة الاستفتاء الذي قادته الحركة الشعبية العنصرية الانفصالية بمنتهى المهنية بمساعدة اللوبي الغربي والكنسي الأمريكي، عقد مؤتمر ما بعد الإنفصال في قاعة رحيبة بجوبا انتظم في منصتها الرئيسية الكومرد باقان أموم الناطق الرسمي بإسم الحركة وسكرتير التجمع الديمقراطي، وإستيفن باك مدير مكتب الحركة في لندن، وإدوارد لينو مدير استخبارات الحركة، ودينق ألور الزعيم غير المتوج لدويلة أبيي (الخازوق) .
وكان ضيوف الشرف الفاعلون في موازاة المنصة وعرابي الدويلة الوليدة الخواجة جيستن مسؤول المعونة الأمريكية للمناطق الثلاث، والدكتور لايف منجا سويدي الجنسية الذي ندبوه للملمات الخطيرة كما يقول المجذوب. وقد جلست المجموعة الدنيا من الشماليين الذين امتصت الحركة رحيقهم وتمددوا في كراسي الإدانة إن لم تكن الخيانة كفوارغ زجاجات البلاستيك.
كان في الصف الاول:
– د. منصور خالد المستشار السياسي للزعيم القتيل.
– ياسر عرمان نصير الحركة وصهرها وأصدقهم ولاءً لما كان يعتقد أنه الحق.
– د. الواثق كمير تروتسكي الحركة.
– والتوم هجو ممثل آل الضريح في موكب السودان الجريح.
– ودياب ممثل إستثمارات الحركة في الخليج.
– د. أبكر آدم إسماعيل المسلاتي الذي مثل دارفور في الحركة ذرًا للرماد على عيون الوطن.
– وبثينة دينار وأخريات سقطت أسماؤهن لضعف السيرة والصورة.
– وممثلو النيل الأزرق مالك عقار وإبراهيم تكة وإبراهيم العمدة وإستيفن فينن ممثل (الأدوك). ومن جبال النوبة جلس على استحياء وانكسار بعد أن إنفض السامر كل من:
1- سايمون كالو.
2- جقود مكوار.
3- وجلاب.
4- يونس أبو صدر.
وقد وثقت مجلة النفير التي تصدرها مجموعة محمد هارون كافي الجلسة الملغومة بتفاصيلها. ومن غير الزمان والمكان والحضور طفح الحزن الذي غطى أنفس الوحدويين وبيوت الشهداء والقادة الأفارقة المؤسسين الذين راقب الأحياء منهم في حزن إنقسام أكبر الأقطار الأفريقية التي كانت موعودة بأن تكون الولايات المتحدة الأفريقية، تنافس بتاريخها وإنسانها وتطلعاتها وثرواتها التجربة الأمريكية، لكنه التدبير السيء والمكر الماحق وعملاء العواصم وخبث الحضارات.
كان الأكثر من ذلك وجعًا ومأساوية الكلمة الأخيرة المصنوعة بدقة لإنهاء الشراكة الخاسرة الحرام. قالها الكمرود باقان أموم في منتهى الجرأة واللؤم والصفاقة بلغة هجين ما بين عربي الرنك وعربي جوبا وهي رطانة فصيحة هجين عُرف بها مثقفو الشلك في الحركة الشعبية عند الخطاب ابتدر باقان حديثه قائلاً:
( تحية للرفاق الشماليين الذين شاركونا السنوات الطوال في النضال الثوري من المدنيين والعسكريين بالسلاح والمواقف حتى نالت دولة الجنوب استقلالها. وفي هذا المقام فهناك كلمة لابد أن تقال بمنتهى الصراحة للذين يتساءلون عن مصير القيادات في المرحلة القادمة. كما تعلمون هناك سلوك يمارسه اهلنا في الجنوب والجبال ودارفور والنيل الازرق، وهو سلوك النفير حيث يساعد الاهالي المزارع في إنجاز عمليات الز راعة والنظافة والحصاد وينالون خدمات الطعام والشراب، ولكن كما هو معلوم فإنهم لا ينالون نصيبًا من الحصاد).
صمت الرجل قليلاً حتى توقفت همهمات الحضور الذين وقعت عليهم الكلمات وقع الصاعقة، وتلفتوا يمنى ويسرى وتهامسوا حتى عاد الصمت المريب إلى القاعة من جديد. لم تستمر الجلسة بعد هذه الكلمات الجارحة الدامغة الرادعة طويلاً.
خرج الرجل بعد أن ودع المرتزقة أصحاب الياقات البيضاء في هدوء ليواجهوا مصيرهم المجهول ولن أغرق في التفاصيل فإن فيكم فطانة، وكل الشعب يعرف من بعد بقية الحكاية.
فبعيد خطبة الوداع الباقانية أصبحت حكاية النفير منفستو للمرحلة واجراءات للطرد والمغادرة. لقد كانت الكلمات من بعد ذلك في الاجتماعات اللاحقة مباشرة وخالية من الدبلوماسية والعزاء (لقد نال الجنوب إستقلاله ونحن الآن لسنا في عافية سياسية أو عسكرية تسمح لنا بالدخول في نزاع بسببكم). فأشار القيادي العسكري بيده الطويلة صوب النيل الأزرق والشمال وجبال النوبة وإتجاه الخرطوم.
وبعدها غادر عقار ومجموعته إلى هامش النيل الأزرق، وغادر الحلو ومجموعته صوب (كراكير) الجبال، وشوهد ياسر عرمان يتجول في عاصمة الضباب يرمم العلاقات القديمة للراحل قرنق لتصب في أعماله الخاصة وترتيب معاش أسرته الصغيرة ومستقبله الغامض، وقد تبددت تركة الحركة الشعبية قطاع الشمال بإنقسامها إلى تيارين تيار عقار على الإنترنت، وتيار الحلو على الأرض. وشوهد د. منصور خالد لاحقًا يقضي شيخوخته وحيدًا بمنزله الفاخر بالخرطوم شرق بلا صديق ولا أنيس ولا نصير ولا دور مرتجى إلا من مر الذكريات، حيث لم يبق للرجل في العمر ما يكفي لبدايات جديدة كما يقول غريمه صلاح أحمد إبراهيم.
إنني حقيقة لا أدري ماذا قال الرئيس سلفاكير وهو يودع المجموعة ويقلدها عقود كجور الأماتونج للمباركة، ولكن العبارة لن تكون بعيدة عن مثل السودانيين الشائع (العرجا لمراحها) وإن أردنا نهاية أكثر شماتة وتراجيدية، فمثلما لكل (كشتينة) مقامرة (بوايظ) كذلك لكل حركة مغامرة أيضا (بوايظ).
وفي ردنا لبعض الانتقادات والمراجعات والنقد الذاتي لبعض التكنوقراط من الشركاء الآثمين الذين تفرقوا أيدي سبأ في العواصم الأوروبية وأمريكا وكندا واستراليا والخليج نقول:
(إن التوبة أسهل شئ يُطلب ولكن الغفران أصعب شئ يُمنح).
٣/ ولأن هذه المقالة كتبت في اغسطس ٢٠٢٠ فلا تثريب على أبطال المادة التي حبرناها ولا ضير من التوبة والأوبة فإن الشعب الصابر الجريح والله الغفور الرحيم يعفو عن كثير.
٤/ كل الذي حدث في نيروبي تجارة خاسرة وبيع حرام ورزق مسروق وزع سراً على المؤتمرين فخانوا أنفسهم وخانوا وطنهم وخانوا عقيدتهم إن كانت لهم عقيدة، أنه ميثاق القتل والإغتصاب والسرقة ومفارقة الوحدة والدين إنها تجارة آخر الزمن الكاسدة وقد صدق حكيم البادية حين قال:
تجارة آخر الزمن فانية وعميرة قِصيّر
والمال ما بعز ود القبيل مو خَيّر
الشبع بعد الجوع سيدو ديمه قصير
والريش البقوم بعد الكسر ما بطّير