أحمد المصطفى وعبدالرزاق وإيليا يمرغون وثيقة نيروبي بالتراب..

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
أحمد المصطفى وعبدالرزاق وإيليا يمرغون وثيقة نيروبي بالتراب..
روى الفنان المطبوع ابداعاً وثقافةً ورجل المجتمعات أحمد المصطفى نقيب الفنانين ومبتدر الغناء السوداني الجميل بالأولكسترا المكتملة والتوثيق والنوتة وجماليات الإنتقال في اللحن والهرمنة، حكى عليه الرحمة هذه القصة الموحية حيث قال: دعينا لإقامة حفل بلبنان الشقيق وكانت الدعوة والضيافة في بيروت من قبل السفير وأعضاء السفارة السودانية والجالية وبعض الإخوة العرب والأفارقة هناك مِن مَن كان لهم مزاجٌ وهوىً في السلم الخماسي المعبر الحار والأغنيات السودانية، وكنا حينها في سوريا حيث أخطرتنا السفارة بأنها سوف تترك لنا أوراق الدخول في المعبر البري بين سوريا ولبنان، وعندما وصلنا المعبر أخطرنا الضابط المسؤول بأن الأوراق والمشتملة على اجراءات الدخول لم تصله بعد! ودعانا بأن ننتظر في صالة للمسافرين قريبة من المكاتب لحين وصول الأوراق، وكانت الإتصالات يومها نادرة وأن وجدت فهي متعثرة، بدأ الوقت يضيق خاصة وأن الاحتفال في إحدى صالات الفنادق سيبدأ أول المساء وأن عدد كبير من الأسر والشخصيات سوف يكون حاضراً، عاودنا الضابط من جديد واقترحنا عليه أن ندع بطرفه جوازات سفرنا ضماناً حتي تصل الأوراق وشرحنا له تعقيدات الموقف، فاعتذر لنا بلطف لأن موقعه والضوابط لا تسمح له بإتخاذ هذا القرار حينها قال الأستاذ أحمد المصطفى التمعت فجأة في خاطري فكرة وبدأت في تنفيذها فوراً حيث طلبت من الجوقة الفنية المصاحبة والتي كانت تتكون من أمهر وأميز العازفين السودانيين أن يبدأوا في عزف أنشودة وطن النجوم للشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي وأحد أساطين شعراء المهجر تلك المدرسة المترفة بجمال الأفكار والأشعار. أنطلقت أصواتنا الفتية آنذاك في الهواء الطلق بهذه الإلياذة:
وَطَنُ النُجومِ أَنا هُنا
حَدِّق أَتَذكُرُ مَن أَنا
أَنا ذَلِكَ الوَلَدُ الَّذي
دُنياهُ كانَت هَهُنا
أَنا مِن مِياهِكَ قَطرَةٌ
فاضَت جَداوِلَ مِن سَنا
أَنا مِن تُرابِكَ ذَرَّةٌ
ماجَت مَواكِبَ مِن مُنى
أَنا مِن طيورِكَ بُلبُلٌ
غَنّى بِمَجدِكَ فَاِغتَنى
حَمَلَ الطَلاقَةَ وَالبَشاشَةَ
مِن رُبوعِكَ لِلدُنى
كَم عانَقَت روحي رُباكَ
وَصَفَّقَت في المُنحَنى
لِلارزِ يَهزَءُ بِالرِياحِ
وَبِالدُهورِ وَبِالفَنا
لِلبَحرِ يَنشُرُه بَنوكَ
حَضارَةً وَتَمَدُّنا
لِلَّيلِ فيكَ مُصَلِّياً
لِلصُبحِ فِيكَ مُؤَذِّنا
لِلشَمسِ تُبطِئُ في وَداعِ
ذُراكَ كَيلا تَحزَنا
لِلبَدرِ في نَيسانَ يَكحُلُ
بِالضِياءِ الأَعيُنا
وفي قمة المتعة والاسترسال وقد تحالف الصوت والموسيقى مع عبقرية المكان الفسيح فوجئنا بأن الضابط يهرول نحونا ويصيح بصوت مليء بالدهشة والفرح والزهو الوطني: “يا للبشرى! اتغنون أيها السمر المبدعون بكل هذا الجمال والحب للبنان وشعبه وشاعره إيليا أبوماضي؟ إنني استمعت لهذا النص مقالاً ومغنى ولكنني اُقسم بأنني لم استمع له بمثل كل هذه الوسامة وهذا الإبداع والنداوة! تفضلوا بالدخول إلى لبنان على عهدتي وليحدث ما يحدث، حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً”، وبعد أن ختم لنا الجوازات وأذن لنا بالدخول أستأجر لنا حافلة لتقلنا إلى العاصمة بيروت ودفع من جيبه الخاص أجر المشوار.
مرت بخاطري هذه الحكاية المفعمة بالأماني والمعاني وأنا استمع إلى ميثاق الخونة بنيروبي وهم يتنكرون لعقيدة هذا الوطن وللغته الجميلة فهذا زمان استأسد فيه الجهلاء وفرضت علينا الأقلية من المرتزقة وأحذية الأجنبي أن نكون بلاداً ذليلة بلا ثقافةٍ ولا تاريخٍ ولا هويةٍ ولا أمجاد، ومن ما يوثق عن الثقافة العربية لإيليا أبوماضي المسيحي إنه كان يقول:”لولا ثقافتي العربية وفصاحة الأثر الإسلامي في الحديث والقرآن لما استطعت أن أكتب بيت شعرٍ واحد”، وقد فاجأني الشاعر العراقي الكبير الراحل عبدالرزاق عبدالواحد في لقاءاتي معه في برنامجي التلفزيوني “أيام لها إيقاع” حين قال:”أنا يا أستاذ حسين من طائفة الصابئة ولست مسيحياً أو مسلماً ولكن لا تتنزل قريحتي بجيد الشعر إلا حين استمع للقرآن الكريم”. ويبدأ بعدها في قراءة قصيدته الذائعة الصيت في مدح العراق العاري الصدر وهو يتصدى لحملة الأطلنطي الآثمة التي سمحت لستين دولة من الحاقدين أن تتجول أقدامهم القذرة ما بين الرصافة والجسر:
بلى كل ذي قولةٍ قالها
وكل أخي ميلةٍ مالها
وكل طموحٍ جموح الخيال
أتيحت له جولةٌ جالها
وما بدّلت حالةٌ حالها
ولا قيل عن شهقةٍ يالها
إلى أن طلعت فضجّ العراق
وزُلزلت الأرض زلزاله