الغناء السوداني .. يقطع الصحراء الليبية ويقطف عنب اليمن

حكايات سودانية
++++++++
أغنية (فتاتي) بهرت القذافي والكابلي هز عرش (الحمدي)
الغناء السوداني .. يقطع الصحراء الليبية ويقطف عنب اليمن
يرويها: أمين حسن عبد اللطيف
أينما حلّ السودانيون تركوا أثراً طيباً وباقياً في قلوب مَن عرفوهم وعاشوا بينهم، فمن المألوف أن يسكنُ الطلبة السودانيين المُبتعثون لخارج بلادهم مع بعضهم أو قُرب بعضهم لعلّ في ذلك بعض الشفاء من ألم وقسوة الغُربة، وهكذا تحتلّ “الحنية” قمة ضعفهم في بُعدهم عن الوطن. في فترة الستينات المسحورة – كما في قبلها وبعدها – ابتُعثّ عددٌ كبيرٌ من السودانيين للمملكة المتحدة بغرض التحصيل العلمي والعملي في كافة المجالات، وكانوا مُنتشرين ببقاع المملكة الممتدة.. التقى ذلك الطالب الليبي بمجموعةٍ من السودانيين إبان دراسته ببريطانيا في ذلك الزمان وتوطدت أواصر صداقته بهم فعاش بينهم مُكرمّاً وسعيداً، لا يبخلون عليه بمشاعرهم ومساندتهم كما أنه لم يُخفِ عنهم أحاسيس الامتنان والمودة المُخلصة وحُرّة. وبالطبع، كان يطربُ معهم لموسيقاهم وأغنياتهم التي يحملونها جزءً عزيزاً من وجدانهم وما يملكون. ولكن، أغنية “فتاتي” نظمُ الأستاذ الطيب محمد سعيد العباسي وشدو الفنّان الرقيق والشفّاف الأستاذ الطيب عبد الله، والتي وُلدّت في تلك السنة الخصبة، كانت تمتلك مشاعر مجموعتنا هذه. وكانت تُلعّب في المُسجّل ذي شرايط البكرة المفتوحة (Reel Tape) عشرات المرات في اليوم ولا تملّها مُهج المُستمعين، خاصةً وأنها تُطابق في محتواها العذب ما يُكابده الكثيرون منهم مع ذوات العيون الزرقاوات والشعر الأشقر مع القلوب القاسية التي شكا منها الشاعرُ بـ:”سوف تنأى خُطايّ عن بلدٍ حجرٌ قلبُ حوائه صلّدُ” واحتجاجه المُرهف على تعامل تلكم الحواء الشديد ومُقابلتها اللين من عواطفه بالقسوة المُفرطة: “أيِ ذنبٍ جنيتُ فاندلعت ثورةٌ منكِ خانها الجلدُ”.. والعديد من الأبيات التي “تُدوّب” من رقتها وحلاوتها، لا سيمّا ذلكم اللحن الحبيب الذي يكسوها أناقةً وشباباً على مرِّ الأزمان والعصور.. افتُتِنّ الطالب الليبي بـ “فتاتي” وحملها معه صدىً في نفسه عند عودته إلى بلاده، وإن انقطعت صلته مع زُملاء العلم والسكّن من أبناء السودان، خاصةً وان وسائل اتصال ذلك القرن من شأنها أن تتوارى خجلاً إثرّ تخلفّها عن ما نألفه اليوم من أعاجيب!. وتمرُّ السنون وينقلب ذلك الطالب على حُكم بلاده الملكي ويعتلي سُدّة الحُكم بها لتتقاذفه أمواج السياسة من بحور المُعتقدات إلى مُحيطِات المذاهب بعرض عوالمها المُبهمة ومتاهاتها المهولة التي لا تعرف إلى الاستقرار سبيلا، إلا انه لم ينسَ “فتاة” الطيبيْن وتلك الفترة الخضراء من الحياة والشباب.. في العام 1970 قادته دروب السياسة وأقدار ذلك العصر إلى الخرطوم ولقاء رئيسها حينئذٍ.. وإن كانت ايام بقائه بعاصمة السودان معدودة وحافلة بالنشاطات السياسية، إلا أنه طلبَ إلى مُضيفيه لقاء الأستاذ الطيب عبد الله علّه يشفى شغفه بسماع “فتاتي” من مُغنيها الأصيل مباشرةً، فلرُبما تطفيءُ لهيب الشجن المُشتعل بالنفسِ منذ فترة الدراسة ببريطانيا.. إلا أن ضُعف وسائل اتصال ذلك العصر حالت دون لقاء الرئيس الليبي بمُطربِنا الشفّاف. ولكن المسؤلون بإعلام البلاد في ذلك الزمن تكرمّوا بتزويد الضيف الكبير بشريط مرئي به تسجيل حديث للأغنية الخالدة ليحمله في قلبه ويستعيدَ به حلو الذكريات عند عودته لجماهيريته!. بلى، ذلك الرئيس المشجون هو العقيد الراحل مُعمّر القذافي والرئيس المُتفهّم والمُضيف الكريم هو المشير الراحل جعفر نميري.. رحم الله ثلاثتِهم وأطال في عُمر الفنّان المُرهف الطيب عبد الله.
حكمة الطرب اليمانية!
عندما كان ذلك الطالب اليمني يدرسُ في الرياض بالمملكة العربية السعودية قُدّر له أن يسكن بجوار أسرة سودانية، مدتّه بما افتقدّه من عطف بلده بالمعاملة الكريمة والمودة. ولقرب المِزاج اليمني من نظيره السوداني ألِفَ الطالب مشاعرَ مُضيفيه واعتاد سمعه على الغناء السوداني الذي يملاُ أجواء ذلك المنزل الرحب. إلا أن غناء الأستاذ عبد الكريم الكابلي احتلّ مكانة أثيرة ورفيعة في نفسه، وأصبحت تلكم الأغنيات زاداً يتناوله صباحَ مساء. وتربعّت دُرةُ الحمداني “أراك عصيّ الدمعِ” بوجدانه امتداداً وبقاءَ.. تدرجّت السنون بالطالب فعاد إلى بلاده وانخرط بمجال العسكرية حتى أصبح مُقدماً بالجيش اليمني. وفي يونيو من العام 1974 قاد انقلاباً على السُلطة دُعيّ بـ”حركة 13 يونيو التصحيحية” مُنهياً بها حُكم الرئيس القاضي عبد الرحمن الأرياني. وعلى الرغم من اضطراب أوضاع ذلك الجزء من العالم العربي والنفوذ الخارجي المُتزايد والمُتآمر على “سعادة” بلاده ومهامه الجِسام في البناء والتعمير ووحدة شطري وطنه المُتنافريْن العسيرة جداً، إلا أن الرجل لم يقدِر على التخلّص من إدمانه على الارتياح لرائعة أبي فِراس المكسوة بأثواب الحُسن الخُماسي السُلّم وهي تختالُ زهواً بصوت الأستاذ عبد الكريم الكابلي الموشّى بُحلي السحر من النغم، وعندما زار الرجل –الرئيس- السودان لأول مرةٍ في العام التالي لحُكمه تعرّف عن قُرب علي الفنان الذي سحرّ وجدانه وامتدت معرفتهما صداقةً وإلفة وزياراتٍ متعددة.. في 11 أكتوبر من العام 1977 أُغتيل الرجل النادر غدراً ولمُ يُكشف عن هوية القتلة حتى اليوم.. نعاه صديقه الأستاذ عبد الكريم الكابلي حُزناً عميقاً وشجناً أليماً في لقاءٍ تلفزيوني باليمن بالقول: للصديق العزير في نفسي ذكرى حبيبة وحزينة تبقى معي حتى آخر يومٍ لي في هذه الدنيا، فقد كان المرحوم إبراهيم الحمدي من أحلى الناس الذين عرفتهم.. كان حيياً ويُحبُ الغناء.. رحمه الله رحمةً واسعة وحيا ذكراه بين أهله وأحبابه.. وبالطبع، لم يبخل أستاذنا الكريم على مُشاهدي ذلك البرنامج بغناء ما كان يفضلّهُ صديقه، ويتوج غنائه برائعة الحمداني.. ويبقى الغناء السوداني الصادق مؤثراً ومُستقراً بأعماق كل من يستمع إليه، حتي وإن كان رئيساً!..