أمين حسن عبد اللطيف يكتب: الغافل من ظنّ الأشياء هي الأشياء

الغافل من ظنّ الأشياء هي الأشياء

أمين حسن عبد اللطيف

لا أحد يذكّر تحديداً متى حلّ التاجران المُشاغبان المُتشاكسان بتلك المدينة الوادعة المحصورة، فمعظم سكّانها ذوي قُربى وأصحاب وأحباب.فتحا متجريهما متجاوريْن ليُبيعا ويتنافسا في التجارة والكسب. فإذا ما عرض أحدهما مجموعة أطباقٍ وأكوابٍ بسعرٍما، أسرع الآخر في عرض ذات البضاعة بسعرٍ أقلّ، فيخرجُ الأول صائحاً ونادباً بباب دكانه ليلعن البائع الثاني ويتهمه بـ “خراب بيته” ويذكرّه بالحديث:”سمحاً إذا باع وسمحاً إذا اشترى” حتى أُطلِق عليه اسم “السَمِح “. أما الثاني فلا يلبثُ أن يخرج عليه مطلقاً لصوته العنان بأنه “مُفترى عليه” وأنه لا يبحثُ إلا عن “اللقمة الشربفة” ويذكّر بأن التجارة منافسة و”الحشاش يملا شبكتو”، حتى صار يُعرّف لدى أهل المدينة بـ “الحشاش”. فذاع امر البائعيْن حتى عمّ الأقاليم المجاورة نسبة للعرض المُثير الذي يُقدمانه كل ما جلب أحدهما بضاعة ما وعرضها للبيع، بالصياح والمناكفة الكوميدية. فأزدهرت تجاراتهما وأصبحت محلاتهم التجارية الأشهر في المدينة والمُدن المُجاورة وتوسعّت عروضهما لتشمل كل ما يحتاجه المنزل من أواني ومفروشات وتُحف و… و…
لم يُعرف لـ “السمح” أو “الحشاش” أصلٌ أو عائلة، بل عُرفا بالعداوة الشديدة، إذ لا يجرؤ سكان المدينة على ذكر أحدهما أمام الآخر، إلا إذا مارُمت سعراً مخفضّاً لسلعة ما فما عليك إلا أن تقول لأحدهما بأن الآخر يُعرض ذات السلعة وبسعرٍ أقل. فيُبيعُك إياها بأقل من سعر الآخر ولكن بعد أن يُسمعك فيه “الأصلو ما بنقال”! ولكن بطريقة تشُدّ الإنتباه. فقد كان أداء البائعين درامياً وكوميدياً على نحوٍ مُدهش ومُحبّب إلى نفوس المُشترين. وكانت بضاعتهما تمتازُ بالجودة والمتانة فكثُر الإقبال عليها من كافة سُكان الإقليم، واتسعت رقعة زبائنهما لتعبر الحدود إلى الأقطار المجاورة لذلك الاقليم السعيد، لدرجة أن بعض سُكان المدينة اقترحوا ترشيحهما لمجلس الحكومة المحلية لشهرتهما وحب الناس لهما، ولكن.. اختلافهما الصارخ هذا قد يؤدّى إلى فشل مشاريع من المُمكن أن تنفع الناس عند التصويت عليها داخل المجلس، كما أفادّ أحد حكماء البلدة. فاقتنع سياسيو المدينة بذلك الرأي واكتفوا بما يُقدماه التاجران من دعومات مادية لمصلحة المدينة، إذ كانا كريميْن جداً في التبرّع لمشاريع البُنى التحتية بالمدينة ورعاية الفُرق الرياضية والمباريات، فطوّر أحدهما استاد المدينة حتى صار الأضخم والأحدث في المنطقة، بينما قام الآخر بحنقٍ على تطوير قسم الرياضة البدنية بكلية المدينة الجامعية حتى صار أفضل من القسم الرئيس بالجامعة في العاصمة، وتوالت المنافسة والعداوة بينهما وبذات الوقت ازدهرت تجارتهما وتطورت المدينة وامتدت عمراناً بفضل عطائهما السخي وكرمهما على الجميع.
وفي نهارٍ ماطرٍ كئيب انهار التاجر “السمح” في متجره وأسرع به عماله إلى المستشفى، إلا أن أمر الله كان أسرع فسبق القضاءُ وتوفىّ الرجلُ وسط بكاء وحزن الجميع، بما فيهم التاجر الآخر “الحشاش”. وبعد انقضاء فترة العزاء بمنزله الكبير على طرف المدينة، لاحظ الجميع بأن الرجل حزن عليه حزناً شديدا وامتقع لونه ونحل جسمه وتغيرت هيئته حتى لتظنّ بأنه سيلحق به عما قريب، وذلك بالطبع لدهشة الكُل نسبة للكراهية المُتبادلة وغير المُستترة بينهما!.
فجأة ودون سابق إنذارٍ اختفى “الحشاش” من المدينة ولم يترك أثراً. وبعد أسابيع فتح عُمال البلدية المتجرين ليجدا، ولدهشة الجميع أنهما فارغان تماماً، إذ يبدو أن التاجر أخذ كل شيئ من المتجرين بليلٍ ورحل بهدوء.. إلا أن ما أذهل أهل المدينة تماماً هو أن المتجرين مُتصلان ببعضهما من الأسفل!، ووجدوا وريقةً بذلك النفق مسطّرٌ عليها:- يأ اهل المدينة الشُرفاء، الرجل “السمح” هو ابن عمي رحمه الله، واننا شُركاء في تجارتنا وبفضل العرض “المسرحي” الذي كنا نقدمه نتمكّن من بيع كل ما نجلبه. فشكراً لكم على احتمالنا بالبقاء وسطكم، والحمد لله على ما رزقنا بينكم. ولقد أودعتُ مالاً بحسابٍ بمصرف المدينة، أرجو من البلدية ان تُشيّد مسجداً باسم المتوفى بمكان منزله الحالي، وأنا بدوري أتبرّع بمنزلي في الطرف الآخر من المدينة وقفاً للمسجد.. وكان هذا آخر ما عُرف من قِبل أهل المدينة الوادعة عن أمر التاجرين المجهولين والمُبهم جداً..
رحم الله شاعر أفريقيا، السوداني، محمد مفتاح الفيتوري، إذ صدقَ عندما قال: دُنيا لا يملكها من يملكها.. أغنى سادتها أهليها الفقراء… العاقل من يأخذُ ما تعطيه على استحياء.. والغافلُ من ظن الأشياء هي الأشياء!. وإذا ما انخدع أهل تلكم المدينة الوديعة بالتاجريْن الماكريْن، فقد خُدع قبلهم قومٌ كثرُ.. ولك، يا عزيزي القاريء، أن تُخضِع كل –أو معظم- ما يمرُّ عليك في حياتك من خصميْن متنافسيْن لأمر التاجريْن هذا مقياساً ومعيارا، خاصة في مجال السياسة ومكاسبها الحزبية والفئوية، وستُذهلك النتيجة!