التجاني وهارون وساتي وأشياء للذكرى..

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
التجاني وهارون وساتي وأشياء للذكرى..
من مآثر صحيفة ألوان وقناة أمدرمان الفضائية وإذاعة المساء إبتداعهم لمسميات للأعمدة والبرامج كسرت المألوف في التسميات للصحف والقنوات والإذاعات السودانية. وأذكر تماماً أنني في بداية ألوان كنت حريصاً جداً على إستراحة الصفحة الأخيرة خاصة وأن مدخلي للصحافة كان عبرها في جريدة الأيام حيث اصطحبني الأخ الصديق والشاعر الكبير المؤرخ والمثقف الفذ الأستاذ التجاني سعيد صاحب ديوان قصائد برمائية ورائعتي وردي “قلت أرحل” و “من غير ميعاد” التي كتبها وكان حينها طالباً بالثانويات، اصطحبني بسيارته الموسكوفيتش البرتقالية وكانت السيارات في أواخر السبعينات بعض النعمة ومن علامات الثراء والتفاخر، إلى صحيفة الأيام التي كان يترأس تحريرها الأستاذ الراحل والصحفي الموهوب حسن ساتي، وقدمني له بإعتبار أني صحفي قادم وشاعر وقيادي طلابي وأشياء أخرى. وقد إستمع الأستاذ حسن ساتي لمجموعة من قصائدي العامية والفصيحة وأذكر أني قرأت له من الفصيح “لك القدح المعلى وألوية المسافة والزمان” ومن العامية: “كنت حاسس أني بلقاك في المرافي السمحة في فرح القصيدة” وقد أحتفى بشاعريتي جداً، تلك الموهبة التي ذهبت أدراج الرياح مع عواصف الصحافة والسياسة والمعارك والندوات والإتحادات وأركان النقاش، وأصبح الذي يحفظه الأصدقاء منها أكثر من ما بقي في الذاكرة أو الأوراق. طلب مني الأستاذ حسن ساتي أن أكتب معهم في يوميات الأيام، وكانت يومذاك حكراً على الكبار مصطفى سند، ومحي الدين فارس والتجاني سعيد وأخرون. وبعد أقل من أسبوع زرت دار الصحيفة بالخرطوم بحري حيث كان تعمل بها كوكبة من الصحفيين المتميزين هاشم كرار ومرتضى الغالي ومحي الدين تيتاوي وعثمان عابدين ومصطفي أبو العزائم وفتح الرحمن النحاس وسمساعة ومحمد محمد خير والنجيب نور الدين وميرغني أبو شنب وبقية العقد الفريد. سلمت المقال والصورة الفوتغرافية ودردشت مع هذه الحزمة من الحرافيش الأذكياء آملاً في العودة إذا لاقت المقالة هوى في نفس رئيس التحرير والسكرتارية والمحرر العام. وبعد ثلاثة أيام فاجأني الأصدقاء من كل حدب وصوب بأنني أحتل الصفحة الأخيرة بأيقونتها يوميات الأيام “ومن ديك وعيك” فهذه اليوميات هي التي كانت الحافز التحريضي الأول لإصدار صحيفة ألوان في بداية الثمانينات كأصغر رئيس تحرير وأول صحيفة خاصة تصنع وتصوغ لها مساحة بين صحيفتي الأيام والصحافة الناطقتين بإسم الإتحاد الإشتراكي. ورغم أن العدد الأول صدر بلا إعلان ولا ترويج إلا أن نسبة التوزيع كادت أن تصل إلى مائة بالمائة، وكانت أول صفعة نجاح تلقيتها “إن صحت التسمية” أن مطبعة الأيام ومطبعة الصحافة أصدرا قراراً بحرماني من الطباعة في ماكينات الأوفست التي تتبع للصحيفتين ولم يكن هنالك حل أو سبيل لهذا المأزق إذ لم يكن هنالك مطابع أخرى للصحف، وكدت أن أرفع راية الإستسلام منذ العدد الأول بعد هذا المطب الذي لا عبور فوقه أو تحته إلا بإذن من الإتحاد الإشتراكي الذي لم يكن بيني وبينه وشيجة أو حتى استلطاف، حتى أنقذتني فكرة التشكيلي والمصمم والكاتب عبد القادر علي (مولانا) رئيس قسم التصميم بجريدة الأيام، حيث أرشدني إلى معامل التصوير الملون التي كان يمتلكها ويديرها الأخ الصديق الفنان والداعية ورائد الطباعة الملونة ببلادنا الأستاذ صلاح الدين عبدالله (كاميرا آرتست) فقرر في جرأة غير مبالية بالعواقب أن يطبع ألوان في الورق الأبيض وبالألوان وبسعر التكلفة، فكانت بمحياها الجديد إضافة للصحافة السودانية شكلاً ومضموناً. والحديث في هذه الذكريات ذو شجون سوف أتعرض له بالتفصيل في برنامجي القادم الموسوم بعنوان “ودارت الأيام” وهي ذكرياتي وتجاربي في الصحافة والإذاعة والتلفزيون. أو تخصيصاً في ألوان وقناة أمدرمان وإذاعة المساء. ولأن يوميات الأيام ما انفكت تنبض في قلبي وعقلي فقد أسميت إستراحة ألوان بالصفحة الأخيرة “بقايا مداد” وهو إسم اختاره الأخ الصديق الصحفي المتعدد الآفاق والرؤى الأستاذ محمد محجوب هارون إبن مدينة الرهد الوسيمة، وكان يومها طالباً بجامعة الخرطوم، ثم من بعد أستاذاً بها بعد رسالة باهرة للماجستير والدكتوراه بالمملكة المتحدة. وكان لمحمد عمود يومي بألوان مقروء ومتداول واستراحة بقايا مداد الأسبوعية. ومن أذكى الصفحات التي كان يحررها حضوره القوي للندوات السياسية والإجتماعية والاقتصادية والفكرية التي كان يلخصها في صفحة كاملة بعنوان “من مقاعد المتفرجين” وكانت صفحة تغني القراء عن حضور تلك المنتديات بل تفيض.
بقيت أسماء الأعمدة والبرامج وتفرق الأحباب وأصحاب الأقلام الشفيفة والماتعة، وبحثوا عن مهن أخرى فصار الوادي جديباً والأفكار قاحلة والمفردات تطمرها رمال الجفاف والتصحر المعرفي.. أبحثوا معي عن الدكتور محمد محجوب هارون وكتاباته المثمرة وأبحثوا عن كتابات عبد المحمود نور الدائم الكرنكي الذي آثر الصمت في زمان النصيحة والإفصاح. وتجافت قريحة التجاني سعيد عن الشعر فصيحه وعاميته، وماتت حواراته الباعثة على التدبر والشجي في أرشيف الذكريات وأصبحت تلوح من بعيد الأنغام الكسيرة وهي تتناوح ما بين بنايات الخرطوم المدمرة والحواري الغر والمضايق، ووردي يشدو بصوته السعيد في زمان الحزن والكآبة:
كل الطيوب الحلوة يا مولاتي والجيد الرقيق
واللفتة والخصل اللي نامت فوق تسابيح البريق
وخطاكي والهدب المكحل وفتنة التوب الأنيق
في لحظة مرت كالظلال تعبر رؤاي احساس عميق
فتحتي جرح الليل عزا ومن صمتي ما قادر أفيق