حكاية من سرديات الغرباء .. خربانة أم بناياً قش..!!

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

حكاية من سرديات الغرباء..

خربانة أم بناياً قش..!!

“هاجر إلى إحدى دول النفط أيام الطفرة، وكان حينها خالي الوفاض من المواهب والمؤهلات؛ لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وليس في يده صنعة ولا حتى رخصة قيادة، غير أنه كان يحسن الأُنس والحكي وصناعة النكتة والمفارقات. ومع خفة دمه، تعلم هناك القيادة وعمل سائقًا لرجل أعمال ثري كريم يحب السودانيين، فأغدق عليه بالهدايا والهبات، وكان يأتمنه على تجارته وبيته وأبنائه، وكان يقول لهم: هذا السوداني هو شقيقكم الأكبر. وكعادة معظم أهل السودان، كان السائق وفيًّا وأمينًا على مال الرجل وبيته وأسراره.
قضى قرابة عشرين عامًا في الدولة الشقيقة، ثم عاد إلى السودان ليؤسس أعمالًا تجارية تقليدية لكنها ناجحة. شيّد بناية في أحد الأسواق وأقام بها مجمعًا تجاريًا، وتنعم بما يتنعم به التجار من شمائل وأفراح وسعادة تتناسب مع أحلام ومقدرات أمثال هؤلاء البسطاء.
ذات يوم، زاره رجل صالح، صاحب خلوة قرآن في الحي المجاور للمسجد، وكان يحمل (جرابه) ليشتري بعض الحاجيات من بقالة صاحبنا التاجر. وعندما أكمل شراء حاجياته الزاهدة، أقسم عليه التاجر ألا يدفع مليماً واحدًا، قائلًا: يكفي أنك تعلم القرآن وتقيم الصلوات الراتبة. شكره الرجل الصالح بكلمات نبيلة ودعوات طيبة، وعندما همّ بالخروج، استوقفه التاجر ليستفتيه قائلًا: “والله يا شيخنا، إني أحمد الله على رزقه، فقد بنيتُ هذه البناية، وأقمتُ منزلاً من ثلاثة طوابق تحيط به الأشجار المورقة والمثمرة، وتزوجت بحسناء جديدة (زيادة على أم الأولاد)، وهذه هي البرادو التي تراها، وهناك أخرى بالمنزل…”
وعندما كان الرجل الصالح ينتظر نهاية هذا الجرد على الثروة المفاضة، فاجأه التاجر الظريف بمقولةٍ شعبية موحية ومتساهلة: “دحين يا شيخنا، ما لقيتوا لينا دبارة في قصة الموت دي؟!” استغرق الرجل الصالح في ضحكة عميقة وقورة، ثم أمسك برأس التاجر وقرأ الآية الكريمة:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
ثم عكف الشيخ يلقنها للتاجر حتى حفظها، فقال بصوت فيه كثير من الاستغراق المتبتل: “يا هذا، لو كانت هذه الفانية تسوى عند الله جناح بعوضة، لكتب فيها الخلود لسيد الخلق المصطفى صلى الله عليه وسلم”.
ويبدو أن هذه الخطبة القصيرة قد خالطت عقل الرجل وبددت من قلبه ما ران عليه من تعلق زائف بالفانية. شوهد التاجر بعد فترة في مجلس الرجل الصالح، وقد تعلم القراءة والكتابة، وحفظ كتاب الله، وأصبح يتولى إمامة الناس في غياب الشيخ عند المرض أو السفر.
أما آخر فصل في الحكاية، فيتداوله الناس بمرارة؛ فقد حطمت الميليشيا الغاشمة مجمع الرجل، ونهبته، ودمرت المسيد بدانة موجهة، وشردت طلاب القرآن، ومزقت جسد الرجل الصالح، الذي أصبح الآن طريح الفراش بين الموت والحياة. كما نهبت سراية التاجر التي جمعها طول عمره، وهو الآن نازح فقير في إحدى قرى الشمال، يحمد الله، ويوالي قراءة القرآن ويتدارسه مع جلسائه، ويقول لهم بابتسامة الرضا:
“إن السودان القديم بدأت قراه وفرقانه وحواضره الصغيرة ببئر نضّاح، ومسيد من القش والحطب، ورجل صالح، وتقابة قرآن، و(بلاد فيتريته)، وحفير، وبضع غنيمات يتواثبن حول الغابة القريبة… بهذا بدأ السودان الغريب، وبه سيعود. فطوبى للغرباء.