حكاية سودانية .. الجرح الأبيض ما بين السبورة والطبشورة

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

حكاية سودانية

الجرح الأبيض ما بين السبورة والطبشورة

جمع بينهما عطر الطباشير ورائحة الكتب وعرق الأطفال والتلاميذ، فكان زواجهما بسيطا ومباركا. كان أستاذاً للفنون وكانت معلمةٌ للغات. هاجرا لسنواتٍ عديدة، ونتاج الهجرة واللقيا طفلٌ وطفلة وبيت صغير بالدرجة الثالثة بأمدرمان ما بين المدينة والهامش.
هدّه المرض فإرتحل في هدوء وتركها وحيدة في مشوار الحياة القاسي، ناضلت في جسارة لتربية أبنائها حتى دخلا الجامعة بنجاح باهر. وفي عام ٢٠١٨ حينما كانت بأجزخانة قرب سوق أمدرمان رأت مجموعة من لصوص الثورات يحرضون الشباب على اقتلاع “التلتوار” وتحطيم أعمدة الكهرباء وواجهة المحلات.
قالت يومها: هذا هتاف وشعارات أعرفها تماماً وهؤلاء هم لصوص الفترات الانتقالية، حيث لا أمل لهم في الديموقراطية ودوائر الجماهير، ولذا يصبح كل همهم الأقصى تحطيم البلاد التي لا ينتمون لها، وحزمة قيم الأغلبية التي لا يؤمنون بها.
عادت إلى منزلها واتخذت قراراها الخطير وقالت لأبنائها: إذا استمر هؤلاء العدميون في جريمتهم فسيولد السودان الرمادي الأغبر الذي لم تعهدونه ولن تستطيعوا احتماله. باعت بيتها الحلم، وكل ما تملك وسافرت إلى دولة مجاورة اشترت بها شقة صغيرة بالأقاصي، وسجلت إبنها وإبنتها في جامعة شهيرة محترمة وعاشت وعاشوا على الكفاف. ورغم المسافة ظلت قلوبهم معلقة بالسودان مهوى الأحبة وملتقى الشرف الكبير.
هبت العاصفة والحرب ولهب الكراهية فهاجر الملايين إلى مجهول الروح، وغريب المقار، والأوطان البدائل. في إحدى الأيام طرق ٣ من الشباب السودانيين باب شقتها وكانت سعادتها فياضة حين علمت أنهم زملاء إبنها بالجامعة السودانية، حملوا معهم علبة “تورتة” وقالوا في همس مهذب: أتينا لنحتفل بتخرج إبنك وزميلنا أحمد. اجتمعوا حول المنضدة وبدأ الأنس السوداني الأليف. ومن قلب ضفاف السرد أطل سؤالها البرئ وكيف أنتم والجامعة والتخرج؟ فأجابوا في حزن وإنكسار: أننا يا أستاذة وللأسف لم نغادر حتى الآن السنة الأولى، لم تكن إجابة بل كان وقعها كالصاعقة على قلب الأم الجريحة والمعلمة المشردة قسراً.
هالتها الصدمة فإنهارت وقد صعد السكري في جسدها الناحل تهاوت، وكانت حينها ما بين الموت والحياة حملوها في سرعة وشفقة إلى مستشفى قريب، وبالمعالجة والعناية المكثفة عادت لها الحياة من جديد وبعد أسبوع كامل عادوا بها إلى السكن الحزين. وكان أول المعالم التي وقعت عليها عيون الداخل إلى قلب الشقة “تورتة” الفرح الكسير التي تيبست طيلة أيام الغياب.
جلس الجميع صامتون حولها الإبن والإبنة وأحمد الخريج المحتفى به وزملاء الهجرة الدامعة، وكانت أول الجمل المفيدة من أستاذة اللغة المتمرسة أن شعباً يفرط في مؤسساته التعليمية وجامعاته ويغلقها لخمس سنوات، ويترك البغاة يسرقونها ويدمرونها، ويعصف بعمر جيل كامل في أودية الجهل المقفر، شعبٌ .. صاحت إبنتها قبل أن تُكمل: استحلفك بالله يا أماه ألا تكون نهاية الجملة شعب غير جديرٌ بالإحترام. وإنخرط الجميع في نوبة من البكاء الطويل وكلٌ يفكر في أعماقه عن صفة أخيرة تكمل جملة المعلمة صاحبة القلب الواهن المتشظي الحزين.
ويبقى السؤال المحير المعلق في قلوب الملايين تُرى متى كانت البداية الحقيقية للحرب ومتى كان الإنهيار؟.