في جامع أمدرمان الكبير كانت لنا أيام .. (ليت زيلينسكي استمع لنصيحة حاج خوجلي)!

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
في جامع أمدرمان الكبير كانت لنا أيام:
(ليت زيلينسكي استمع لنصيحة حاج خوجلي)!
غمرتني سعادة فياضة بالحنين والشجن والذكريات وأنا أقرأ خبر عودة مسجد أمدرمان العتيق ببنائه الصامد المتقن وهو يتوسط قلب سوق أمدرمان في صلاح وكبرياء، هذا المسجد الذي توقف لأكثر من عامين عن أداء الصلوات الراتبة وصلاة الجمعة، بعد أن منعت مليشيا الحقد واللصوصية والإرتزاق كل شيء طاهر في بلادنا من المواصلة والاستمرار حتى المساجد.
صلى الناس صلاة الجمعة الفائتة بالمسجد وأجهشوا بالبكاء دموعاً عطرت صحن المسجد وركائزه وأبوابه المصنوعة من المهوقني السوداني الحلال. صافح وقالد قدامى المصلين بعضهم البعض وبللت أكتافهم دموع الصلاح وعبرات الحنين لذلك الماضي المبارك الذي ظن العميل بأنه قد طوى صفحاته المجيدة إلى الأبد.
ولي مع هذا المسجد ذكريات ليس بالصلاة وحدها، ولكن بحلقات الذكر والدروس والتعلم الذي بقي رغم مضي السنوات يظلل العقل والقلب والجوانح. لا أنسى ذلك اليوم الذي حضر فيه البروفيسور حيدر خوجلي شقيقنا الأكبر وقال للوالد بصوت فيه كثير من الحزن واليأس الراشد (إن صحت العبارة) بأنه طاف على كل المدارس الأهلية والشعبية ومدارس اتحاد المعلمين المسائية فوجد عندهم مكتوبا من جهاز الأمن القومي يفيد (بأن الطالب حسين خوجلي محمد حسن رئيس اتحاد طلاب مدرسة أمدرمان الأهلية المفصول من الدراسة لمواقفه من النظام ومشاركته في تظاهرات ما يسمى بثورة شعبان فإنه يحرم من الإلتحاق بأي مؤسسة تعليمية).
ظللت بعدها بالمنزل وسط مكتبة إخوتي الضخمة والصحف اليومية أقضي بها الوقت وأنتظر المجهول. وفي أحد الأيام فاجأني الوالد عليه الرحمة قائلا بلغة صارمة لقد آن الأوان أن تبحث لك عن رزق بعد أن سدت منافذ التعليم. إن لم ترض بالسوق فإني أقترح عليك أن تذهب لخلوة ود الفادني لحفظ القرآن فإنه العلم الأنفع لك في الدنيا والآخرة. فأخترت السوق، وليتني أخترت القرآن. وربت على كتفي ممازحا، إن أهلك في الوسط لهم عبارة حكيمة ومفيدة تقول: (ترك المرجلة في محل المقدرة مرجلة). وقد طافت بذهني هذه المقولة وأنا أرى ذلك المشهد التراجيدي ما بين زيلينسكي الأوكراني وترامب الأمريكاني فما أشبه الليلة بالبارحة!.
ولحسن الحظ كان المحل الذي اختاره لي لتجارة الأقمشة يفتح أبوابه على مسجد أمدرمان العتيق مباشرة فكنت أصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وفي صحنه عرفت أفضل أهل السودان من التجار الصادقين وأكتشفت أن سوق أمدرمان يعج بالأدباء والمثقفين والحكماء والشعراء وأهل السياسة والوطنية. وقد نلت منهم من العلم والتجربة ما لم أتلقاه في الجامعة المحتشدة بالمحاضرين والمحاضرات والكتب والمنشورات. لكن أصدق ما في تلك الأيام تلك الساعات التي كنت أقضيها في المسجد ما قبل صلاة الظهر حتى صلاة العصر. في تلك الساعات كانت حركة السوق تخمد وتضمحل قليلا، فكنت أترك المحل للعمال وأدخل للمسجد متتلمذا على حلقات الدرس. كانت كل ركيزة في المسجد بها شيخ ودرس وكتاب وكنت أتنقل ما بين حلقات التفسير والحديث والنحو والفقه حيث كان الموطأ هو سيد الموقف، وإمام الكتب والمراجع بالمسجد، والفقه المالكي بشيخه وتلاميذه من بعده. وكانت هنالك ركيزة لعلم التصوف حيث كانوا يدرسون إحياء علوم الدين للغزالي وكانت هنالك حلقة لألفية إبن مالك في النحو وقواعد اللغة، وكانت هنالك دائرة للمديح حيث اغترفت منها قصائد إبن الفارض، والشيخ عبد الغني النابلسي، والبصيري وبقية الكبار، وعرفت الدندنة بها:
بروق الحي لمّاعة.. ونفس الصبّ طماعة.. وكتمان الهوى طاعة ..
ولكن هذه الساعة)
وأجمل مافي هذه الحلقات أن علماءها لا يأخذون أجراً وأن تلاميذها من العامة يحضرون لها حسب التساهيل وأغلبهم من العمال والصناع والسماسرة وصغار تجار السوق، وكان فيهم الكثير من المداومين.
وقد حفّزني على الحضور أن لهؤلاء المشايخ علم ولطف وتواضع وزهد جعلهم ينشرون العلم لا يرجون منه جزاء ولا شكورا من بشر أو طلاب. وكانت لهم لغة صادحة زكية بالمفردات والعبارات هي هجين ما بين الفصيح والعامية السودانية الودود الولود. وزيادة على ذلك فقد كانوا يطلقون النكات واللطائف من باب الإمتاع والمؤانسة دون سخرية أو تجريح. وقد كان لي حصاد كبير من هذه التقاطعات اللطيفة التي سجلت أغلبها في دفاتر أرجو ألا تكون يد المرتزقة قد طالتها بالتمزيق والإتلاف، فقد كنت أوطن نفسي لإصدارها في كتاب بأجزاء عدة تحت عنوان (في جامع أمدرمان الكبير كانت لنا أيام)، وآخر بعنوان (حصاد العام في مجالسة الدراويش والعوام).
ومن اللطائف التي ما زالت في الخاطر ونحن في إحدى حلقات التفسير قال الشيخ الساخر الظريف وهو يقرأ الآيات:
فَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّدٗا قَالُوٓاْ ءَامَنَّا بِرَبِّ هَٰرُونَ وَمُوسَىٰ (70) قَالَ ءَامَنتُمۡ لَهُۥ قَبۡلَ أَنۡ ءَاذَنَ لَكُمۡۖ إِنَّهُۥ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحۡرَۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيۡدِيَكُمۡ وَأَرۡجُلَكُم مِّنۡ خِلَٰفٖ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمۡ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخۡلِ وَلَتَعۡلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَابٗا وَأَبۡقَىٰ (71) قَالُواْ لَن نُّؤۡثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَآءَنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلَّذِي فَطَرَنَاۖ فَٱقۡضِ مَآ أَنتَ قَاضٍۖ إِنَّمَا تَقۡضِي هَٰذِهِ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَآ (72) إِنَّآ ءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغۡفِرَ لَنَا خَطَٰيَٰنَا وَمَآ أَكۡرَهۡتَنَا عَلَيۡهِ مِنَ ٱلسِّحۡرِۗ وَٱللَّهُ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓ (73) إِنَّهُۥ مَن يَأۡتِ رَبَّهُۥ مُجۡرِمٗا فَإِنَّ لَهُۥ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحۡيَىٰ (74) وَمَن يَأۡتِهِۦ مُؤۡمِنٗا قَدۡ عَمِلَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَأُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَٰتُ ٱلۡعُلَىٰ (75) جَنَّٰتُ عَدۡنٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ وَذَٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ (76).
كان بيت القصيد في تفسير الرجل في الحلقة (ديل هم السحرة الرجال أولاد القبايل قالوا لي فرعون أقض ما أنت قاض، لا خافوا من القتل ولا من الصلب ولا من العذاب، ما زي سحرتنا الخيابة ديل المشعوذين بتاعين النسوان وعروق المحبة وزيبق التنزيل والسحلية الحمراء والخروف الأسود والبياض والزار ولولا الحبشية وأولاد ماما !).
وأهتز المسجد بالضحكات على التعليق الوارف بالأصل والعصر.
ومن الدروس التي خرجت بها وأنا أجالس هؤلاء البسطاء أن هذه النخب السياسية من الحكام والمستوزرين من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ليس لهم أي معرفة بمغاليق أو مفاتيح الجماهير، هي مجرد كلمات فارغات في المنابر الخاوية استجلابا للسلطة والحاكمية والمال الحرام. فهل ياترى سندرك المغزى من ذكاء الجماهير بعد تحرير الخرطوم وعودة السودان القديم، أم أننا سنعاود التراجع والمسير القهقرى صوب ذات المنعطفات التي أودت بنا إلى الأيام التي أذاقتنا فيها المليشيا مرارات النزوح واللجوء والمغادرة والإغتصاب واللصوصية والمذلة بكل النواحي والبلدان واللغات؟
وإن كان لي نصيحة لأهل المسجد والمصلين وأنا بعيد أن يترحموا على امام المسجد وخطيب الجمعة الرجل الصالح الداعية حامد عمر الإمام، ومازالت مطبوعةٌ في خاطري ختامه الكريم في الخطبة الثانية للجمعة قال صلى الله عليه وسلم: (البِّر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديّان لا يموت، إبن آدم أصنع ما شئت فكما تدين تُدان). قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.