في سيرة الآباء المؤسسين للصحافة السودانية .. الريفي .. أفكارٌ لها سيقان..

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
في سيرة الآباء المؤسسين للصحافة السودانية
الريفي .. أفكارٌ لها سيقان..
من القامات الصحفية التي تدربت في أول حياتي الصحفية على يدها أستاذ الجيل الراحل محمد خليفة طه الريفي، أحد كبار الكتاب والصحفيين في بلاط صحافة الوحدويين ومن المقربين لمولانا السيد علي الميرغني، بل إنه كتب مذكرة “كرام المواطنين” التي بعث بها السيدان للفريق عبود مباركين ومؤيدين بعد انقلاب ١٧ نوفمبر، وجمع أيضا كتاب “السادة المراغنة” الشهير. صدرت جريدة الثورة المعبرة عن النظام وكان الريفي رئيساً لتحريرها وقد صدرت في حجم كبير في غير ما عهده القراء فكان باعة الصحف يصيحون في شوارع الخرطوم “البرش بي قرش”، وكان عليه الرحمة لا يبالي بالانتقادات، وكان يحسبها من أنجح الاصدارات في كل العهود الشمولية التي مرت على السودان وكان يعدد أمامي الصحفيين الذين كتبوا فيها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ويضيف ضاحكاً: “لكنهم يا ابني حسين دائماً ما يجحدون”
ومن كرامات الأستاذ الشاعر الصحفي فضل الله محمد رئيس تحرير جريدة الصحافة في العهد المايوي والناطقة باسم الاتحاد الاشتراكي أنه كلف الريفي بصفحة المحليات التي أطلق عليها اسم “مرايا” وكان القراء يومها يشترون الصحيفة لهذه الصفحة لما فيها من إختصار ودلالات وذكاء، وحين كانت تتلبسه حالة السخرية من الواقع يقذف بآرائه الساخنة دون أن يبالي. وفي إحدى الأيام زار وزارة الزراعة وقد كلف الرئيس جعفر نميري يومها الرائد ابو القاسم محمد ابراهيم وزيراً لها، وكان الموسم الزراعي في ذلك العام سيئاً جدا وقد طال المزارعين بالفقر والديون والحراسات، وكان الريفي عالماً بهذا الملف وخباياه تماماً لأنه “من اولاد القضارف” مطمورة السودان التي كانت وما زالت. وفي زيارته تلك للوزارة لحظ أن الشجرة التي تقف في مدخل الوزارة كانت يابسة وعجفاء وقد تساقطت عنها الأوراق والفروع والخضرة فاصبحت تمثالاً من الخشب لو اتكأ عليها طفل لسقطت على رؤوس الزائرين، وبحصافة الصحفي وخاطرته الإعلامية المتقدة طلب الريفي من مصور الصحيفة أن يصور تلك الشجرة العجفاء ومن خلفها تطل لافتة الوزارة وقد نشر الصورة في اليوم التالي في صفحة مرايا معلقاً: “هذه يا سادتي هي شجرة وزارة الزراعة”، وعند توزيع الصحيفة صارت حكاية الشجرة والتعليق حديث المدينة وقامت القيامة وتم استدعاء فضل الله وسكرتارية التحرير في تحقيق مطول بجهاز الأمن حيث كان الرائد ابو القاسم يومها فتى مايو المدلل ورغم ما أحدثته الصورة والتعليق من ضجة إلا أن الأستاذ فضل الله محمد رفض في شجاعة أن يبعد أستاذ الجيل الريفي معللاً ذلك بأن نظام مايو القوي لن تهزه صورةٌ وتعليق من كاتب عريق ليس متهما في وطنيته أو ولاءه للجماهير وإن اختلف مع النظام.
وقد تعلمت من أستاذ الريفي مثل هذه التعليقات الناقدة اللاذعة على الصور المعبرة عن الأحداث، ومما أذكره من هذا الدرس الذي بقي في الخاطر أنني نشرت صورة في الوان في الديموقراطية الثالثة للسيد علي الميرغني وحوله ابنيه السيد محمد عثمان والسيد احمد الميرغني وكانوا اطفالاً تبدو عليهم سيماء البراءة والطهر القديم وقد احتدم يومها الصراع بين فصائل الإتحاديين مثل ما يحدث اليوم، فكان للسيد محمد عثمان الحزب الإتحادي الأصل وكان للشريف زين العابدين الوطني الاتحادي الأصل وكان للراحل علي محمود حسنين المحامي الحزب الوطني الإتحادي (شنو كدا) ومجموعة من الأحزاب الاتحادية التي تعبر عن أشواق صناعها المزيفين الطامعين في المال والاستوزار دون برنامج أو هوية. وكان تعليقي على صورة الحسيب النسيب وابنيه (عندما كانوا صغارا كان الحزب كبيرا) وقد احتلت الصورة إطلالة الصفحة الأولى ويومها طبعنا من ذلك العدد أكثر من ستين ألف نسخة تم توزيعها بالكامل دون مرتجع.
ومن ملاحظاتي وانا أراجع مع الرجل مواد المرايا أنه كان يحول المقالات التي ترده من القراء والمراسلين ويختصرها رغم التزيد فيها إلى كلماتٍ قلائل موحية ومعبرة تحت باب ما قل ودل، ويقول لي ضاحكاً: يا ابني يا حسين مافي وقت لمثل هذه الثرثرة. وأذكر أني نقلت دروسه هذه إلى صحيفة حائطية كنت أصدرها بالجامعة تحت مسمى سلامات وكانت صحيفة للمنوعات المقروءة دون استزادة في “ساس يسوس” وعلى منوالها أصدرت (ألوان).
وكان لي صديق يحدث نفسه بأن يكون صحفياً ولو بالعافية وقد أصر يوماً ان اصحبه لأستاذنا الريفي ومعه مقال كان يعتقد أنه سوف يكون جواز دخوله لعالم الصحافة وحين قدمه لأستاذ الريفي بعد تزكية مني قرأ المقال الطويل باهتمام وخاطب زميلي معلقاً في سخريةٍ مخبوءة: أين يا ابني خبر المبتدأ وقال مفسراً: بدأت مقالك بمبتدأ مرفوع وكل الذي أتى بعده جملة اعتراضية، فحين تجد الخبر يمكننا أن نستوعبك في قائمة المتدربين. انفجر الحضور في ضحكة مجلجلة ولم يعاود صاحبنا الكتابة، بيد أنه صار بعدها من أثرياء الخرطوم وقد صدقت مقولة العرب (لا يجمع الله بين الشعر والمال).
كان الراحل محمد خليفة طه الريفي فاكهة جريدة الصحافة بل الصحافة السودانية بأكملها وقد اكتشفت أن أغلب التعليقات والأفكار التي يزين بها فنان الكاركتير الشهير عز الدين عثمان رسوماته من بنات أفكار الريفي ومنها كاركتيره الشهير حين ذهب مجموعة من المحررين للعشاء في حديقة الجندول بأم درمان خصماً على الراتب القادم فرفض صاحب الحديقة، فعادوا جياعاً ومقهورين وأراد عز الدين أن ينتقم من صاحب الجندول فصاغ كاركاتيرا بدت فيه لافتة الحديقة بارزة وقد خرج منها مواطن غاضب وهو يقول: “الحسنة في المنعول متل الشيري في الجندول” ومشروب الشيري المسكر كان مشهوراً في مطاعم وحدائق الخرطوم وفنادقها يومها قبل أن يعلن النميري تطبيق الشريعة الإسلامية وتحريم المسكرات.
وقد زارني الريفي بعد انهيار مايو وإغلاق الصحافة بمكتبي بألوان في صحبة الأستاذ محمود ابو العزائم والأستاذ رحمي سليمان عليهم الرحمة جميعاً وكان يومها عاتباً على السيد محمد عثمان الميرغني في أنه لم يستدعيه للاستفادة من تجاربه في حزبه الجديد رغم أنه يعرف تماما صلته بوالده الحسيب النسيب، فقلت له إني أعرف وصفة لمثل هذا الجفاء، فأدرت معه حوارا مطولا في صفحة كاملة بألوان تطرق فيه لعتاب نبيل للسيد محمد عثمان وقد نشرنا الحوار بصورة صبية للريفي وقد بانت عليه شلوخ الشايقية لامعة على وجهه الشاب النضير. زارني بعد نشر الحوار ضاحكاً مستبشراً ومهنئا بأن الوان صحيفة واسعة الانتشار وبالغة التأثير، وكانت حجته في ذلك أن السيد محمد عثمان استدعاه وأكرم وفادته (ولم يقصر) والمعنى واضح، وقد فطر معه واستذكرا ذكريات الصبا في السياسة والحكايات الإجتماعية وأيام الموالد والمديح..
رحم الله أستاذنا الراحل محمد خليفة طه الريفي الصحفي والكاتب والشاعر والمؤانس الظريف وأحد الموثقين الكبار لتاريخ السودان. ومن كرامته الوحدوية أنه تزوج من سيدة مصرية فاضلة أنجبت له ابناً وابنة من الأخيار والأطهار، وظل بيت الأسرة في القاهرة مفتوحا إلى اليوم لأصدقاء الرجل وابناءهم وأحفادهم.
والحديث عن الريفي وصفاته ومزاياه تطول ومنها احتفاءه بالوخزات في جريدة الصحافة وقد كان معجبا بتعليق الراحل محمد صالح يعقوب وهو ينتقد الراحل طلحة الشفيع ( أنت يا طلحة مثل طالع الجبل ترى الناس صغارا ويرونك صغيرا) وكنا مولعين باستراحاته الماتعة وهو يحكي ذكرياته عن الصحافة والصحفيين ومنها صداقاته مع رفقاء دربه السلمابي وعبد الله رجب فقد كانوا في شبابهم من ابناء القضارف الموزعين ما بين القراءة والكتابة والتجارة، ولقلة الموارد كانوا يشتركون في عدد واحد من “مجلة الرسالة” للزيات، وحين يأتي موعد توزيعها بمكتبة القضارف الشهيرة كانوا يهرولون لاقتناء العدد فأسماهم صاحب المكتبة أولاد الرسالة. وكان الدهماء من ابناء القضارف يظنون أن الرسالة والدتهم، وحين يشاهدون الاختلاف في السيماء والوجوه كان يرددون عبارة السودانيين (البطن بطرانة)
وما زالت تضج في أذني عبارته حين يكمل بابه الشهير شاهدت وسمعت وقرأت ولاحظت (يا ولد يا حسين أديني صفحتي البرقُد عليها)
وإن كانت لنا نصيحة ورجاء للأخ أسعد محمد خليفة طه الريفي أن يجمع مذكرات ومقالات وأشعار وحكايات الريفي في مجموعة كاملة من الكتب والمنشورات على الورق والميديا فإن في نشرها ذكرى وعبرة لهذا الجيل الجديد الذي لا يعرف كثيراً ولا قليلاً عن الاباء المؤسسين في السياسة والثقافة والصحافة والفنون وليت الأيام والليالي تكرمنا بالعودة لبلادنا لنكتب المزيد عن سيرة هذا الرجل الكبير، ولعل كلماتنا تشفع لنا عنده حسنة ومغفرة يوم يقوم الناس لرب العالمين