مافي عوجة

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
مافي عوجة
كل سوداني قابلته أيام الحرب والنزوح والمنافي مقابلة وجه لوجه أو بالمهاتفة أو عبر مصدر موثوق حكى لي بأن كل ممتلكاته الخاصة قد نهبت أو دمرت أو أحرقت أو بالثلاثة معاً، بيد أنني لاحظت أن كل هؤلاء ارتسمت في محياهم وفي أصواتهم معالم رضا غريب لم أجد له تفسيراً مع أن كل عائلة من هؤلاء وكل فرد تنطبق عليه عبارة السودانيين الموحية (أباطو والنجم). صدقوني أنني لم أجد حتى هذه الساعة تفسيراً لهذا الرضاء، هل هو إيمانٌ باطني أم صوفيةٌ مخبوءة أم أنه زهدٌ جُبلوا عليه أم هي عدم مبالاة أم هو ذهول بفعل الصدمة والعاصفة؟ هل يا ترى كانت الإبتسامات التي يوزعونها منذ أيام المحنة الأولى إلى اليوم صادقة أم مصطنعة أم هي مجهولة الهوية؟!
لقد نالت منا النكبة كل الرضاء وكل الفرح وكل الذكريات فمن غير ممتلكاتنا الخاصة فقد نالت هذه القوى التدميرية كل ما شيدناه منذ مائة عام وسرقت بيوتنا وسرقت سلامنا وسرقت الطمأنينة والعفاف والإعتدال والوسطية، بل سرقت كل الأوشاج التي كانت تربط بين مدننا الصاخبة تحت إمرة القانون وقرانا الآمنة تحت لواء الشرعية. دمروا كل مشروعنا التعليمي من أساسه حتى جامعاته دمروا كل مشافينا وعياداتنا العامة والخاصة ونهبوا أجهزتها الحديثة إلى غرب أفريقيا، دمروا اقتصادنا بنهب البنوك والمؤسسات الاقتصادية ودمروا كل مصانعنا وهربوا أكثر من ألف مصنع جديد إلى دول الساحل والصحراء. دمروا مكتباتنا وإعلامنا، دمروا كل وزاراتنا ومؤسساتنا دمروا مساجدنا وخلاوينا ومنتدياتنا، دمروا تراثنا وثقافتنا والفنون دمروا كل أسواقنا ونهبوا منها آلاف الأطنان من البضائع. أسواق كانت تنافس باب شريف بجدة وسوق نايف بدبي وبازار طهران العريق، باختصار دمروا وطناً كان يقف شامخاً لصالح أفريقيا والعالم العربي، بل لصالح الإنسانية جمعاء. فعلوها بكفاءة عالية لا تستطيعها دول الإتحاد الأوروبي، ولا منظومة عملائهم في المنطقة، ولا الاستعمار الحديث، ولا الشركات المتعددة الجنسيات، ولا الجن الأحمر.
بل لا زالت حيرتي قائمة وسؤالي معلقٌ ما بين الجنينة وطوكر وحلفا وربك ترى ما سر هذه الابتسامة الراضية وهذا القبول الذي حير الإنس والجن، الابتسامة الشخصية الوحيدة التي رددت بها على هذه الحيرة حكاية الفتى الطيب السمسار بسوق أمدرمان صاحب الطيبة التي هي منزلةٌ ما بين الدروشة والسذاجة والصوفية والظرف، فقد غاب الطيب عن السوق لأكثر من شهرين وعندما ظهر بمحياه البسيط والسمح والمتسامح سألوه ما سر هذا الغياب المفاجئ ايها الرجل الطيب؟
فأجاب بسماحته وطيبته المعهودة: سافرت البلد وقضيت به شهراً.
فأطلقوا في وجهه سؤال السودانيين في مثل هذه المناسبات (إن شاء الله مافي عوجة ؟!) فرد بيسر العامة ولطف الدراويش: مافي عوجة، لكن ابوي مات…
عزيزي القارئ ابتسم فأنت في السودان الجريح ومافي عوجة رغم أن كل حضارتنا شبعت موتاً وقد دس الأبناء (المحافير).