الكرنكي .. الصحفي والدبلوماسي صاحب الأفكار المدهشة

شخصيات ضد النسيان

++++++

الكرنكي .. الصحفي والدبلوماسي صاحب الأفكار المدهشة

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ

إسمه عبد المحمود نور الدائم الكرنكي، ومن الإسم يكفي أن يعرف الجميع دوحة وظلال حياته في تلك الأرومة الطاهرة. يقول معاصروه أنه كان منذ طفولته بود مدني كان كثير التأمل والقراءة والاحتفاظ بالكتب والمجلات، في مدينة إمتلأت شوراعها بأفذاذ لاعبي الكرة والفنانين.

+ النشأة والدراسة:

داخل منزل والده الثري ثراء واضحا نشأ عبد المحمود فكان أن سار وحده دون أبناء جيله في خط مزدوج ما بين الإنتماء السياسي والقراءات الثقافية التي جعلته فيما بعد أحد أكثر السودانيين موسوعية، ومعرفة بالسودان وتفاصيل تفاصيله الدقيقة.
بود مدني وداخل مدارسها تلقى الدرس نابغة تحصيل أكاديمي ناظرا لمخطط أيامه القادمات، فظلت جامعة الخرطوم التي إلتحق بها طالبا بكلية القانون والأحداث التي عاصرها محفورة في ذاكرته. ولو قدر لأحد طلاب جامعة الخرطوم، أو معاصري فترة الغليان السياسي في السبعينات أن يكتب مشاهداته بتدقيق وتفصيل كل حدث تحليلا ومتابعة وسردا لكان الكرنكي. ولو فعل ذلك لقرأ الناس أسرارا لم تنشر.

+ جدارات صحفية:

داخل جامعة الخرطوم كذلك كانت الجداريات الصحفية التي شارك فيها بمقالات مميزة. يقول معاصروه إنها كانت مقالات مدهشة ومليئة بالسرد والوصف واللغة الرصينة، وسكب فيها عصارة ما أكتسبه من القراءات التي كان يقول أنه ومنذ عهد يفاعته قارئا لها.

+ فتوحاته الصحافية:

عرف القراء الكرنكي صحافيا منذ زمان بعيد، وهو بداية الثمانينات بصحيفة الأيام، عبر استراحة الأيام التي كان يتناوب على الكتابة فيها عمالقة الكتابة والمنوعات الصحفية، وهم التجاني عامر، ومصطفي سند، ومحي الدين فارس، والطيب محمد الطيب، وقرشي فارس ومحمود أبو العزائم، وإبن البان، وعبد الكريم الكابلي، وعبد المجيد الصاوي. ومن عجب كان الكرنكي أصغرهم سنا بتجربة ناضجة في الكتابة والتناول وجذب القاريء لموضوعاته داخل تلك الإستراحات، فكتب عددا فخيما منها نوجزها في الآتي:

1/ 11 مايو 1982 من مدني لمصفاة كوستي.
2/ 24 مايو 1986 المذابح.
3/ 3 نوفمبر 1982 العطر الباريسي.
4/ 14 نوفمبر 1982 سواسية كأسنان المشط.
5/ 5 يناير 1984 أمير العود.
6/ 19 يناير 1984 لماذا أسلم روجيه جارودي؟.
7/ 1 فبراير 1985 قاموس جيب.
8/ 8 ابريل 1984 تطور عبر الحروف.
9/ 10 ابريل 1981 حوار مع د. لويس عوض.
10/ 17 ابريل 1983 جيل متعدد النوافذ.
11/ 29 ابريل 1984 الهرم وغليون الزمن. وغيرها الكثير من استراحات الثمانينات بصحيفة الأيام.

+ هجرته إلى أمريكا:

في العام 1985م إرتحل الكرنكي لأمريكا للعمل بها في إحدى المنظمات، فكان على حد قول مصدر مقرب منه، أحد أكثر المؤهلين من أصحاب القدرات الواضحة في معرفة وإجادة الكتابة والتحدث باللغتين العربية والإنجليزية، مما فتح له علاقات واسعة بأطياف المجتمع هناك، وهو ما ساهم في ظهور كتابات شيقة التناول حول هذه المجتمعات فيما بعد، ومن ذلك تخصصات المحامين التي بها طرائف وغرائب، حيث يوجد محامين متخصصين في قضايا الإبتزاز وآخرين في قضايا الطلاق، والبعض في قضايا حوادث المرور. وحين تقرأ هذه المقالات بروح قلمه يأتيك الإحساس بأنك أحد تلك الشخصيات.

+ محطة لندن:

في العام 1993 حط الكرنكي رحاله بالعاصمة البريطانية لندن كملحق اعلامي بها، فشهدت مدينة الضباب عملا آخرا له غير وظيفته الدبلوماسية، فكان نجم مجتمع السودانيين رغم أطياف وألوان إتجاهاتهم السياسية والفكرية، فكان اجتماعيا من طراز (شيوخ العرب)، وهو ما صرح به المعارضون لسياسات الحكومة قبل المعارف والاصدقاء. ولمعرفته الجيدة بالمجتمع السوداني وذاكرته القوية، تمكن عبر اتصالات ماكوكية ومرهقة استغرقت زمنا من الوصول لأهل فتاة والدها سوداني ووالدتها بريطانية. وكان الطاقم الدبلوماسي بلندن قد فشل لسنوات في الوصول لأهلها مع توسلات الفتاة لطاقم السفارة في مساعدتها.

+ إبداعاته الصحفية:

بصحيفة الأنباء كان أحد ناقلي الصحافة السودانية من كثافة المادة السياسية إلى رحاب الفنون والتحقيقات، وكافة فنون العمل الصحفي، فشهدت الصحيفة استقرارا ملحوظا، حتى أتى قرار تصفيتها.

+ الصفحة الأخيرة عند الكرنكي:

أبدع وإبتكر وصنع الكرنكي قالبا للصفحة الأخيرة بالصحف التي عمل بها، فجعلها صفحة تضج بالحياة والجذب للقراء. ففي اعتقاده أن الأعمدة الصحفية أكثر من عمودين تجعلان الأخيرة مسرحا للملل، فكان يرى أن عمودين (كفاية جدا)، مع مادة منوعات خفيفة وزاوية يتناوب فيها الصحافيين لطرق أمر خفيف التناول بعيدا عن السياسة.

 

+ غرائب ابتكاراته:

تميز الكرنكي بغرائب ابتكاراته التي كانت واحدة من تلك التي تجعل الصحافيين يتعجبون منها، ولا يستسيغونها إلا بعد ظهورها في الصحيفة ومتابعة الناس لها. ومن ذلك استغراب الأستاذ عادل الباز حين تأسيسه لصحيفة الأحداث، من فكرته التي أصر عليها وهي تصوير قبور المشاهير والتعليق عليها. وهي فكرة لم يحدث أن فكر أو تحدث عنها صحافي في السودان من قبل. وحين ظهور أول قبر وكان للوزير مبارك زروق إندهش القراء وكان الأمر حديث القراء مما جعل يوم الجمعة يوم نشر قبر جديد للرموز السودانية يوما لصحيفة الأحداث بلا منازع. وهو سبب اهتمام قطاع واسع من القراء والصحفيين بأمر القبور للرموز والمشاهير.

+ الكرنكي وثائقيا:

إهتم الكرنكي بالوثائق والمعلومات، فجعل مقالاته تنحى منحى وثائقيا، ومن ذلك شجاعته وقوة حجته في تلك المقالات التي عنونها بعنوان (اكتوبر 1964 بداية انحدار السودان نحو القاع). وهي مقالات جعلت الكثيرين يقتنعون بما فيها من حقائق حول حكم فترة الفريق عبود وإنجازاته. وحقا يبقى عبد المحمود نور الدائم الكرنكي شخصا ضد النسيان وضد نسيان ابداعاته الصحافية داخل منظومة وتاريخ الصحافة السودانية.