محي الدين الفاتح: الشعر عندي فعل إرادي لاتهويمًا عاطفيًا

الشاعر محي الدين الفاتح لـ (ألوان):

الشعر عندي فعل إرادي لاتهويمًا عاطفيًا

التجاني وجماع لم يكونا محظوظين ليُسجنا فمضى الأول (مسلولًا) ومضى الثاني مذهولًا

قدمتني (كله العالم جاء) للناس من تلقاء نفسها و(النخلة) أضحت حجابًا غطى ماعداها

أدعياء الفن هم أكبر المروجين للمخدرات التي تقول (الجمهور عايز كدا)

سنعود نرفع راية استقلالنا ، إذ لايصح إلٌا الصحيح

تمهيد مستحق :
بإلتماع الشاعر الذاخر الوجدان، حيث تحتشد داخله مدينته (طابت) التي تعود تسميتها لمؤسسها الأستاذ عبد المحمود صاحب الثمانين مؤلفًا والتي أنجزها في عشر سنوات فقط ،قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى في الثاني من رمضان 1333 للهجرة الموافق للعام 1915م ، إذ كان يمليها أربعةً أربعةً على أربعة من أبنائه وتلاميذه ، في ظاهرة لم تجد حظها من الدراسة. وتسليط الضوء، وبفرادة مفردته وسلامة جرس قافيته؛ يكون الجلوس إلى الشاعر محي الدين الفاتح مستحبا، بل لعله مستحقا لما لحديثه من إمتاع وإشباع وإدهاش .وضيفنا الشاعر الباحث في الفكر والأدب والتربية الأستاذ محي الدين الفاتح محي الدين كُنٌي ( بالطٌفٌح) التي تعني (العالي المنزلة) كغيره من الأحفاد الذين حملوا الإسم و اللقب الذي أطلقه الأستاذ المؤسس على إبنه الشيخ محي الدين الذي علا بعلمه وطفح بغزارة إنتاجه المعرفي ، لكن اللقب أشتهر به على نحو خاص (ضيف ألوان) لما عُرف به من ذكاء وإتقاد ذاكرة كجده الشيخ محي الدين الذي رُوي أنه ما نام إلٌا وعلى صدره كتاب. يقول شاعرنا الحائز على الليسانس الممتازة للغة العربية وآدابها في كلية الآداب بجامعة القاهرة فرع الخرطوم ، كأرفع وأول تقدير يناله خريج بالكلية عام 1985 ليتم التوصية بأن يلتحق الخريج يومها، بالدراسات العليا للتحضير للماجستير والدكتوراة المزدوجة ، وهو المشروع الذي قال ضيفنا إنه تعثر إتمامه لأسباب خاصة .ويكشف الشاعر لقراء (ألوان) إن قصيدته ( كله العالم جاء) هي التي قدمته للناس الذين أحبوا قافيته التي عبرت به إلى فضاء الشعر العربي الواسع ، حيث فاز بترشيح لجنة جائزة مهرجان عكاظ للشعر للعام 2011 م لكن لظرف شخصي لم يسافر لإستلامها ، ليتم إستدعاء الشاعرة روضة الحاج بدلا عنه ، ليعود في العام 2017 للفوز بجائزة مهرجان الشارقة للشعر العربي . وقولي عنه باحث : لأننا ننتظر بشغف أن يطل علينا قريبًا بكتابه عن عبقرية أيقونة الإبداع الدائم الفنان عبد الكريم الكابلي الذي وصفه بالظاهرة الكونية الخالدة ، مثله مثل الكواكب السيارة التي لاتحيد عن مدارها أبدًا .أهلًا بضيفنا الذي ذكر أن شعرنا السوداني يتنفس بحرية، وينمو بعافية وفيه سمرة حبيبة مشبعة بالدفء الغامر والمودة العامرة ..
أجرى الحوار: عبد العزيز عبد الوهاب

* لكل شاعر أشواق ورسالة ،بهما يتأسس مشروعه، وعليهما يتكيء ثم يبادر فيجاهر فكيف كان حالك ساعتها؟

** أصابتني رعشة الشعر باكرًا، فلم أستبن -حينذاك -أشواقًا، ولا استشرفت مشروعًا، لكنني – عند الوعي النسبي – ملتُ إلى التفعيلة شكلًا، وإلى تيار الغابة والصحراء شعرًا، وإلى الواقعية إتجاهًا، وإلى التراث إطلاعًا، مع مسعاي المستمر لأن تتذيل أعمالي ببصمة خاصة. ليظل الشعر عندي فعلاً إراديًا لاتهويمًا عاطفيًا من أجل التعزيز الدائم لقيم الحق والحب والخير والجمال.

* لكن بعض ( المشاريع) الشعرية قد تنطوي على خطر، كونها تأتي مشحونة بطاقة عاطفية أعلى من قدرات الشاعر، قد تقوده إلى الهذيان أو ربما إلى خارج حرم المألوف كما هو حال الشاعرين جماع والتجاني يوسف بشير ؛ لو صح التمثيل؟

** في تقديري إن تلك المشاريع الخطيرة المشحونة أعلى من إحتمال المجتمع لها في ذلك الوقت، ولنا عبارة تعزية في قولنا ( فلان فات زمانه)، وعند تفكيكها ندرك ببساطة أن الشاعر الأوفر عبقرية يحترق عادة في الفجوة الملتهبة التي تفصل بينه والبيئة ذات الحساسية المتدنية ،تلك التي لاتحتفي بوجوده ناهيك عن شعره، والأمثلة مطردة عبر التاريخ ، ولاعلاج لهؤلاء سوى السجن الذى قضى به المتنبئ عامين حتى توازن، جزاءً وفاقًا على إدعائه النبوة في قوله:

مامقامي بدار نخلة إلا………
كمقام المسيح بين اليهود
أنا في أمةٍ تداركها الله …….
غريب كصالح في ثمود

وهو السجن نفسه الذي مكث فيه المعري إختيارا ماتبقى من حياته كي يستكمل مشروعه حيث قال:

أراني في الثلاثة من سجوني …..
فلا تسأل من الخبر الثبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي ..
وكون الروح في الجسد الخبيث .

أما التجاني وجماع فلم يكونا محظوظين ليسجنا، فاحترقا كلًا بمقتضى ماحاصره، فبينما قضى التجاني مسلولًا، مضى جماع مذهولاً.

* والشعر نفسه استغراق وتأمل واشتعال ، يتبعه استشراف، أو هي ذكريات تُستجمع في هدوء كما يقال ، واستدعاء للمستقبل للحلول في الحاضر .. كيف يعالج الشعر هذا؟

** هو هذا وهو ذاك ،استغراق وقوده الذكريات ،وتأمل يقوده الاستشراف، حيث يتم استدعاء المستقبل وفق معادلات الحاضر، هذا هو الشعر الحقيقي وهو النادر، أما مايجري من القول الآني فمعظمه لا ينطبق عليه وصف الشعر ،إنه مجرد هذيان عاطفي، يزول تمامًا بمجرد الإطلاع عليه ،بالسمع أو بالبصر.

* هل لا يزال للفنون دوي وضجيج تشهق له الأرواح ؟ ففي ظل سيادة المألوف والعادي إنزلاقًا إلى أفخاخ (الجمهور عايز كدا) ، لم نعد نترقب مسرحا بنٌاءً يشع منه الأمل ولا قصيدة تصنع الفارق ولا رواية تضرب لها الأكباد؟

** لم يكن جمهور الفنون الحقيقي يومًا ما، بأكثر من جمهور السائد الهابط ،لكن الفنان الذي يستحق صفة فنان، يدرك هذا الأمر فلا ينزلق ،أما أدعياء الفن فهم أكبر المروجين للمخدرات التي تقول (بناءً على طلب الجمهور). مازالت الإنسانية حبلى بالمسرحيات والروايات والقصائد صانعات التحول ،ذلك الذي يتم بهدوء وفاعلية، مثل حركة الشمس الظاهرية ،فنحن لانشعر بها لكننا نجدها في الظلال والضياء والظلام.

* وهل بتنا على مرمى حجر من زمن نضوب البطولات بعد أن جفٌت النبوءات؟

** ولى زمن النبوءات بغير رجعة، وتقلص وجود المصلحين ودعاة التغيير المثاليين، ذلك لأن منظومة القيم المُنتجة عبر التاريخ تفي حاجة البشر إلى الفضيلة، وليست هي بحاجة إلى المزيد ،بل تتطلب إنزالها الصحيح على الواقع مما يتطلب البطولات .وأنا أرى حتمية عودة البطولات مجددًا بعد أن تراخت حينًا من الدهر ،ولنا في غزة وفي السودان الآن مايدعم هذا القول، مع توزع حملة مشاعل البطولة على مختلف مناحي الحياة.

 

** إحتفت الثقافة العربية بأصحاب الشطحات التي يقع أكثرها خارج (صندوق اللغة المعروفة) من الشعراء والمتصوفة حتى تداول الناس: خذوا الحكمة من أفواه المجانين، دون رميهم بالشيطنة والجنون كما عند الغربيين والأمم السابقة، التي إتهم بعضها الأنبياء بالجنون، ورُويَ أن الشافعي كان يستشهد بأشعار كثير من المجانين؟

** يصف الناس كل من يخرج عن مألوفهم بالجنون، لكن ربما يكون ذلك المجنون هو العاقل الوحيد في مجموعته، والجنون رديف العبقرية، بل يفصل بينهما خيط رفيع ،مما جرّ إلى القول (الجنون أروع صفحة في كتاب العبقرية).ولم يخل كتاب من المصنفات الأدبية العظمى من تخصيص فصول للشعراء المجانين ،لكنك عند الإطلاع تجد نفسك أمام شعر عاقل للغاية، فهاهو قيس بن معاذ المتهم بالجنون يقول:

ألا حيِّ أطلالَ الرسومِ، البواليا … لبسنَ البلى، لما لبسنَ اللياليا

ومثله أبو حية النميري القائل:

إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتى سقوطَ حصى المرجانِ من سلكِ ناظمِ
رمينَ فأقصدنَ القلوبَ، ولا ترى …. دمًا مائرًا إلا جوًى في الحيازمِ

وفي المسألة بعدٌ آخر ؛ إذ عدَّّ بعضهم كبار المتصوفة من المجانين أمثال محيي الدين بن عربي وحسين بن المنصور الحلاج، مما يخرج بهذا الزعم من سياقه الطبيعي إلى منحنًى آخر يدخل في دائرة النزاع المذهبي.

* ما القصيدة التي قدمتك للدنيا وسمٌتك شاعرًا؟

** بينما كنت في بيتنا بطابت جاءني أحدهم بمجلة الإذاعة والتلفزيون والمسرح وقد نشرت بملفها الأدبي الذي يشرف عليه حينها الشاعر محمد نجيب محمد علي قصيدة (كله العالم جاء)، وتوالى نشرها في الصحف اليومية زمانئذٍ، واستضافني تلفزيون الجزيرة ليقدمني بابكر صديق ،وتسربت ومعها قصيدة (النصف بعد الثامنة) لتنشرا في مجلة الأقلام العراقية ، لقد قدمتني (كله العالم جاء) من تلقاء نفسها دون أن أسعى لتقديمها ،وعرفتني على الشعراء والمهتمين والقراء ، وما إن انقضى نحوٌ من خمس سنوات حتى أطلت (أتطلع لامرأة نخلة) تلك التي إقترنت بي حتى أضحت حجابًا كثيفًا تغطي ماعداها من الشعر.

* لكن بالمقابل ، هل هي ذاتها التي أنضجتك ثم (عذبتك)؟

** مزيج مزيد من هذا وذاك ، فالعذاب يُنضج،والنضج يُعذب ،والواقع لا يحتمل غير هذه المعادلة.

** وما رسالتك إلى (عمٌتنا النخلة ) وهل لايزال حوارها الأثير ممتدا بين الحجر والثمر؟

** رسالتي إليها من رسالتها إليّ، فالعطاء عندها فطرة لاتحتاج إلى توصية أو تذكير ،والعطاء عندنا فكرة تحتاج إلى الحفظ من التصحيف والتجريف، وتستدعي التمثل الدائم على خارطة الوقت، مع الأخذ في الإعتبار أن الثمر بالثمر لاجديد فيه، مثل الحجر بالحجر ،والتحدى سيظل ممتدًا على جدلية الحجر والثمر.

* تزيد المسافة الفاصلة بين (المحكي) و(المكتوب) إتساعا يوما بعد يوم، حتى وهن جسد المكتوب ولم يعد الحذر من التعدي على حرمة الكتابة والعبث بقواعد النحو والصرف يشغل بال أهل الضاد الذين هم اليوم من قِلتهم في قلٌة؟

** صحيح ،فقد إتسع الخرق على الراقع ،والجهل يشد بعضه بعضًا، ومن منغصات الإصلاح ومنقصاته ؛ طغيان الكتابة المعطوبة وإنتشارها في قنوات التواصل الإجتماعي الإلكتروني ،وربما قلٌت الحساسية لدى القلة من أهل الضاد حتى وجب استدعاء قول الكتيابي القديم المتجدد

أو مثل نقاد الضرورة قد أجامل
حتى ولو رُفع المضاف إليه للدور الأخير
وجُر بالرمضاء فاعل
ماذا يهم قرارتى أولست أستلم المقابل
فالنحو لا ولدى ولا بنتى ولا أنا سيبويه
الشعر لا وطنى ولادينى ولا رزقى عليه

** أخيرًا .. ما رسالتك لأولئك الذين يريدون للسودان أن يغادر زمانه وربما أيضًا مكانه؟

** مازالت تحزنني خارطة السودان الحديثة ،بل أشعر بالوجع العظيم تجاه الفارق بينها والمليون ميل التي تكافئ عندي عدد حروف الأبجدية ، سيُجبر السودان على المغادرة كل من يعمل على مغادرة السودان مكانه أو زمانه، فدون ذلك خرط القتاد، وللبلاد أهلها وهنا أقول:

وطني ونبضك في دمانا حيث شئت وكيف شاء
وطني – الدواء الكي حين يعز في الأرض الدواء
ولك الأيادي البيض تكسوك المهابة
والحياة البكر
من بعد الشفاء
من لم يحرر بالعناء وبالعطاء وثيقة الميلاد
يبقى في انتظار شهادة الموت الصريح
لكننا سنعود نرفع راية استقلالنا
إذ لايصح سوى الصحيح