حسين خوجلي يكتب: الجمرة السوداء

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

الجمرة السوداء

حينما كنا بالجامعة أواخر السبعينات، وقبل أن تنزاح عن السودان ندى الستينات كانت الجامعة تعج بالكثير من التجمعات والجمعيات السياسية والابداعية، فيها الكثير ماهو ناضج وفيها الكثير مما هو عبثي وتهريجي.
ومن الجمعيات النوعية بالجامعة نادي القصة، نادي الشعر، نادي الكتاب، وجمعيات الغناء والمسرح التشكيلي.
ومن الجمعيات العابثة في لطف أن مجموعة من أصدقائنا كونوا رابطة “العشاق الكذبة” تحت شعار:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة
وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث بينهن بشاشة
وكل قتيل بينهن شهيد
كانت مهمة هذه الجمعية رصد جميلات الجامعة وطباعهن وأصولهن، وما تناثر حولهن من أقوال وحكايات وأشعار، وقد أطلقوا عليهن أسماء تنم عن ثقافة ومعرفة ودراية بالأدب. واحدة منهن كانت إبنة أسرة شهيرة تأتي للجامعة بسيارة مرسيدس (ميني) كانت مليحة وقد زادتها نعمة الثروة أنفةً وكبرياء، وتحيط بها مجموعة من الصبايا سماهن الظرفاء بالوصيفات وقد اسموها “بالاستبداد” وحين تمر عليهم كالغيمة دون أن تمن عليهم بتحية يظلون يتمتمون ببيت عمر إبن أبي ربيعة:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما ترد
وأستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد، وكان رئيس نادي الكتاب يتعالى عليهم بعبارته القارصة (طبعا لا هي ولا أنتم لم تقرأوا ولن تقرأوا طبائع الاستبداد للكواكبي).
وأخرى من بنات الاتحاد الاشتراكي أسموها “بالكفاية والعدل”، وكانت هنالك طالبة جميلة وصامتة ترتدي دائما الحجاب الأسود وقد سموها زندقةً “بالحجر الأسود” أما أجملهن فقد كانت حسناء من جنوب كردفان من بنات النوبة والدها أكاديمي شهير من أبناء الجبال ممشوقة القوام بتقاطيع رقيقة واختيارات مبهرة في الهندام، وكانت كابتن الجامعة في كرة السلة وقد كتب فيها أحد شعراء الجامعة قصيدة مشهورة بعنوان “الجمرةُ السوداء”
ويظل أخطر مافي الاختلاط في الجامعات أن الطالبات الراشدات الناضجات للزواج لا يستطيع عشاق الجامعة الاقتران بهن لتقارب الأعمار وقلة الموارد، ويظل الشعار المعبر عن هذه الحالة “العين بصيرة والإيد قصيرة”، وقلة من المتخرجين كانوا ينعمون بالزواج من “البرلومات” أو يأتي قدامى الخريجين وأصحاب المال ليلتقطوا الجميلات من بين براثن العشاق الكذبة. وقد كتب أحد الزملاء مقالة بعنوان “هذه أجيال يأكلُ بعضها بعضا”
وأذكر أن أحد الأصدقاء من أبناء جنوب كردفان كان مرتبطا من زميلة بالجامعة من أصول تركية وقد إنهارت العلاقة لسبب مجهول، وقد لحظت بعد الفراق أن لغته في النقاش أصبحت حادة جداً خاصة أنه كان ينتمي لتنظيم سياسي راديكالي.
فقلت له يوماً ممازحاً: إني أخشى عليك أن تتبنى لغة “الهامش والمركز” وما أخشاه أكثر أن تجرد سلاحك وتعلن التمرد على الحكومة المركزية والجلابة والنخبة النيلية، ليس لصالح أهلنا بدارفور وجبال النوبة والأنقسنا، إنما لصالح شح النفسِ والانتصار بهزيمة ذاتية ليس للوطن فيها من وشيجة أو سلطان.
وفي حملة ترضيتي قلت له: إن كل قصص الحب الخائبات عند أبناء الوسط تتحول في الغالب إلى سنوات من الحزن والأشعار العميقة والأغنيات. وأذكر أن الأغنية التي كانت شائعة في تلك الأيام في ذات المعنى:
نحن أصلنا ناس محبة
زول نحبه وزول نريده
والبفوت ريدتنا يمشي
برضه نفرح بجديده
والأغنية من كلمات الأستاذ تاج السر عباس وغناء الفتى الراحل خوجلي عثمان، وأضفت للمرافعة لتزهيده في الحبيبة الجميلة والمستحيلة أن هذه بعد سنوات قليلة سوف يصيبها الذبول الذي يصيب البيضان “فتصبح مثل عجوز النصارى” فما رأيك يا صديقي أن نخطب لك الجمرة السوداء فقال لي غاضبا: البت المفلهمة دي ما بترضى بي “، فرددت عليه ساخراً ألم أقل لك أن قصص الإرتباط والإقتران والحب والفراق ليس لها أي علاقة بالإثنيات والقبليات والمناطقيات، إنها يا صديقي لعنة النخب التي ألقت بأهاليكم ومناطقكم للتهلكة ومن بعد أودت بالسودان كله إلى هذه الحروبات العقيمة.
الغريب في الأمر أنني قابلته مصادفة بعد فترة وقد تزوج بأخرى بيضاء وصار موظفا مرموقا بإحدى البنوك العريقة بالخرطوم ونسي جرحه القديم الذي ظنه لن يندمل وأغلق الصفحة، فحفظ السودان من ثائر ومتمرد كان سيفعل بمواهبه في المقال والأفعال الكثير من الجرائم المستورة بالبرامج السياسية المزيفة.
ولي مقالٌ شهير بعنوان من قال أن السواد غير جميل؟
وأغرب من ذاك كله أنني قابلت في إحدى محلات التحفيات بالخرطوم وأنا أختار اكسسوارات لتسجيلات القناة زميلتنا الجمرة السوداء وقدمت لي زوجها وكان من “حلب” الخرطوم ومعها إبن وإبنة أخذوا من ملاحة أمهم وبهاء أبيهم الكثير وهي “خلطة” طالما غنينا لها وأنشدنا ” أصله الجمال أدوا الخدر” وكان صديقنا مرتضى ود عطبرة الذي كان صاحب محن ونوادر يقول عن لون وبشرة أغلبية جميلات السودان ” عليهن خدرة فوقها بودرة” ومما كنا نحفظه ونستدل به عن جدودنا وجداتنا قول أحد العرب المبدعين:
لئن كُنْتَ جعد الرأس واللونُ فاحمٌ
فإني بسيط الكفِ والعرضُ أزهرُ
وإنّ سوادَ اللون ليس بضائري
إذا كنت يوم الروع بالسيف اخطرُ

وقال آخر في أمر النساء السمراوات:
قالوا: تعشقْتّها سوداءَ قلت لهم
لون العوالي ولون المسك والعودِ
إني أمرؤ ليس شأنُ البيض مرتفعا
عندي ولو خلت الدنيا من السودِ