الجزيرة بين بكاء المسن وصراخ الكتكوت

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

ولألوان كلمة

الجزيرة بين بكاء المسن وصراخ الكتكوت

أصبحت مفردات المأساة والنكبة من قتلٍ وسحلٍ واغتصابٍ واجتياحٍ وسرقات لا تؤدي الغرض من كثرة التكرار، وتكسر النصال على النصال، وبقاء الجراح مفتوحةً لدرجة التقيح والتقرح والألم الذي طال، حتى عالجناه بالتناسي حين عز الحكيم وانعدمت المراهم.
ولإعادة حجم المأساة والنكسة في قلوب الناس فإننا ندعو الجميع رصد شتات الأحزان الصغيرة والحكايات المؤلمة، فإن في توثيقها وإذاعتها يظلُ الثأر باقياً مدخلاً للوعي والحلم بالسودان الجديد.
وفي كثير من الأحيان تظل الحكايات الصغيرة الدامية والمذلة هي الأبقى من العبارات الكبرى التي ماتت على شفاه الاعلام والصحافة والسوشيال ميديا والقنوات. ومن الحكايات المذلة التي جرحت خاطري وأصبحت مفتاحاً للشعور بالإنكسار والهزيمة، حكاية رواها لي أحد الإخوة حدثت في قريتهم البريئة الآمنة المطمئنة بالجزيرة، إلى أن اقتحمها هؤلاء الأوباش مسلحين بالحقد والحسد والدونية، وكل مافي قاع الإنسان المتخلف المجرم من عاهات وخزي وسقوط. فقد دخلوا القرية وقتلوا وسرقوا واغتصبوا وأوقفوا سيارات النقل الكبرى المنهوبة التي جمعوا فيها كل شيئ، نعم كل شيئ حتى الأغنام والأبقار ودواب الترحيل.
دخلوا على إحدى المنازل فوجدوا رجلاً مسنًا في الثمانين من عمره مريض هدته السنوات ومرارة الهزيمة، ورحيل الأسرة التي لم يستطع أن يرافقها بعد أن أقعده العجز والمرض وقلة الحيلة، شهروا في وجهه السلاح وطلبوا منه أن يمنحهم ما لديه من مالٍ وذهبٍ ومكتنزات، فقال لهم بصوت كسير فيه كثير من العجز والسخرية (والله إني لا أملك من حطام هذه الدنيا إلا مرضي وهذا الجلباب البالي على جسدي) فقالوا له بغلظة آمرين: إذن إنهض لتجمع لنا دجاج القرية، وإلا ملأنا صدرك وظهرك بالرصاص القاتل. تعثر الرجل وهو ينهض وأصبح يطارد دجاجات القرية وهم يقهقهون من محاولاته اليائسة، وفي آخر الحصاد أتاهم يجرجر الخطى حاملًا “كتكوت” وقال لهم في استجداء بالرحمة والعفو، إن هذا كل ما استطعته.
وبعد لحظات صمتٍ مخيف كأنها دهرٌ أصدروا قرارهم القاسي، وأمروا الرجل المسن أن يأكل الكتكوت الحي ووضعوا على رأسه فوهة الكلاش الحاقد. وعندما داسوا على زناده أدرك أنه أصبح في خطر وأن ليس بينه وبين الموت إلا ثوان وطرفة عين، فبدأ المسكين في قضم الكتكوت وهو يبكي والكتكوت يصرخ. وظلوا هم يشاهدون هذه التراجيديا ويواصلون ضحكاتهم وقهقهاتهم الشيطانية المجنونة التي شكلت الموسيقى التصويرية لهذا المشهد المؤسف الحزين حين يصبح إبليس الدعامي هو الحاكم بأمره في أرض كانت حتى بالأمس القريب تنجب الأبطال وكرام الناسِ وشريفات النساء.
خرجوا بعد أن نالوا كل شيئ من أهل القرية، أموالهم وأعراضهم وكبريائهم وحتى باقي دقيق الخبز البلدي والمواقد التقليدية القديمة ولم يتركوا للغبش وأهل الهامش الحقيقي شيئًا من حطام الدنيا. وحين أداروا سياراتهم المحملة برزق قرية جمعتها أكثر من مائة عام بالجهد والعرق والحلال، أطلقوا رصاصات الحقد على أعتاب القرية إيذانًا واعلانًا على انتصار عائلة دقلو وقوات التتار الجديدة المتسربلة في ثياب هولاكو ونيرون، وسودان الغفلة يحترق قرىً وفرقان وحواضر بين أيديهم الآثمة.
إنهار الرجل وهو يمسح دم الكتكوت من بين شفتيه اليابستين وقد سال الدم على جلبابه المهترئ، وعند حضور أهل القرية للتعزية والمواساة على جرحه وجدوه في حالةٍ يرثى لها بين الذبول والذهول، وكان المسكين قد دخل في غيبوبةٍ امتزجت بالمذلة والهوان. الطمأنينة الوحيدة التي دخلت عليه كانت حين ربت إمام المسجد في تحنان على كتفه المهيض عليك بالصبر يا أخي فإن النصر قادم، وسيكون مصير فرعون الدعم السريع هو مصير الفرعون القديم، سيطالهم الغرق في رمال الصحراء ووزيره وجنوده، وسيُكتب لهذه الأمة النصر المبين وتشمخ أنوف أبنائها بالشرف والكرامة. وصدق الحق حين قال (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون).
هذه الحكاية هدية لأهلنا بالجزيرة وهم ينهضون اليوم وثباً وتحليقًا بعد انتصارهم الكبير كالنوارس من هشيم الرماد، هدية لهم وهم يعلنون القيادة العسكرية لإقليم الوسط الذي أعلن الاسلام ديناً وعقيدة وقانونًا، وأعلن العربية لسانًا وثقافة وطلاقة، كسرًا لأنف، وإذلالًا للشيوع.