تفاصيل خطة الإستيلاء على كنوز السودان التاريخية

ولا بواكي على ضياع الإرث الأصيل

تفاصيل خطة الإستيلاء على كنوز السودان التاريخية

خبير كندي: أهذه هي البلاد التي تصفها أمريكا براعية الإرهاب؟

+++++++++

يرويها: أمين حسن عبد اللطيف

سُئل يوماً السياسي البريطاني المُخضرم ورئيس الوزراء الأسبق ونستون شيرشيل عن تعريف السياسي الجيد. فقال: أعتقد أنها المقدرة على التنبؤ بما سيحدث غداً والأسبوع المُقبل والشهر المُقبل، بل والعام المُقبل. وصمت هُنيهةً وأضاف: كما هي القدرة على الإقناع إذا ما لم يحصل كل ذلك. واليقين أنها ميزة مرغوبة جداُ عند كل من يمتهن السياسة، ولكن الوضع في بلادنا يحتاج إلى أكثر من ذلك، إذ أن ما ينقصنا هو نقل الخبرات بين الأجيال بغرض الاستمرارية.

+ القيادة للشباب:

الأحزاب السياسية تتبنى فكرياً ومعرفياً من هو مؤهلٌ فطرياً للإنخراط في دروبها منذ سنٍ مُبكرة ومن ثم تغذيته بأفكار الحزب ونقل خبرة قادته إليه وحثه على تفعيل الحنكة الكامنة بنفسه وبالتالي يصبح الشخص أهلاً للقيادة وفي سنٍ مُبكرة. لذلك تجد رؤساء وزراء دول عظمى في عالم اليوم من جيل الشباب وإن كان في أحزابهم من يفوقهم عُمراُ وخبرة. وأصبح عالم اليوم السياسي حكراً على الشباب، وهم مؤهلون وقادرون على قيادة بلدانهم بكل اقتدارٍ ونجاح، فأين نحنُ من ذلك؟. ومَن مِن الأحزاب السياسية عندنا يؤهل شبابه ويُسقيهم من تجارب الكبار الذين سبقوهم حتى يحتلوا الصفوف الأمامية عند اجراء الانتخابات؟. للأسف لا يقتصر هذا الأمر على السياسة فقط، بل نجد هذا القصور المُعيب في عدة مجالات، وللمتأمل أن يطبق هذا المثال على نشاطات أخرى تُمثل أضلاعاً هامة في هذه الحياة. يغيبُ علينا هذا الأمر المُهم جداً عندما لا نسمح لأطفالنا بالجلوس في بعض الأحيان مع الكبار في منازلنا. نعم، يجب علينا السماح لهم بذلك حتى نوفر سبل نقل الخبرات والتجارب من جيلٍ إلى آخر. ولا بد للتربويين الانتباه لهذا الأمر الخطير إذا ما أردنا أن نخلق لبلدنا استمراريةً وبقاءَ. نحن بفطرتنا لا نكتب ولا نُسجل تجاربنا وبذلك تضيع خبرات حيواتنا عند انتهائها. ونجد تاريخنا الآن في الصدور أو القبور كما قيل. وما أتعس الأمة التي لا تحتفظُ بتاريخها موثقاً، ومتاحاً لكل من يرغبُ في الاطلاع عليه، ولذلك يبقى رموزنا وأيقونات مجتمعنا مجهولين لدى الأجيال اللاحقة. وفي عالم اليوم الذي أصبحت فيه المعلومة رهن الأنامل وسهولة الحصول عليها كشربة الماء نجدُ من النشء من يُعاني فقراً مُدقعاً في معلوماته العامة. وكان نظيره في عهودٍ سابقةَ غنياً في هذا القسم من المعرفة وإن كان في حصوله حينئذٍ على معلومة ما جُهداً وعناءً مُضنياً. وينطبق هذا على التلميذ والطالب المهني على حدٍ سواء.. هل يا تُرى يُعزى ذلك لانقطاع التواصل بين الأجيال، وبالتالي خلق هذه الفجوة اليائسة والبئيسة بين جيل أمس الأول وجيل اليوم والغد؟!.

+ هذا لماذا؟:

ببدايات عقد التسعينات عملتُ بجنوب القضارف في مناطق الزراعة المطرية. وكانت الرحلة من القضارف إلى منطقة “أبو سبيكة” تستغرقُ زُهاء السبع ساعاتٍ وبطريق تتمنى مُفردة “وعِرٍ” أن تنتمي إليه!. ويمرُ الطريق عبر حلَالِ عديدة يقطنها نفرً قليل من المُشتغلين بالزراعة والعُمال الموسميين، وبالطبع كانت تلك الحلَال بدائيةَ وبسيطة. ويا للسُخريةَ أن تكون أغنى مناطق السودان وأضخمُها دخلاً، أفقرُها قرىً وأبسطُها سُكنى!. وعَرِفَ ذلك العقد من الزمان السودانُ لأول مرةٍ العداء السافر مع الغرب وخاصةً الولايات المُتحدة، وجرَب أهل السودان بعضُ العقوبات الدولية، وإن لم تكن المقاطعة الاقتصادية قد فُرضت وقتها!، وانتشرت بدنيا الغرب أخبار رعاية السودان للإرهاب وتذكير الزائرين لبلادنا توخي الحيطةَ بل واجتناب زيارته إذا كان ذلك مُتاحاً. استعانت الشركة الزراعية التي كُنت أعملُ فيها بخبيرٍ زراعي من كندا، دارُ القمح ومعقل التقنية الزراعية العالمية، وكنتُ أرافقه في زياراته المتعددة لأرض المشروع القصية. وفي ليلةٍ ظلماء اضطُرَ الرجلُ إلى العودة للخرطوم، فاستقلينا السيارة الرُباعية الدفع وغادرنا المشروعَ وقتها تفادياً لأمطار متوقعة صبيحة اليوم التالي، وأمطار تلك المنطقة وصفتها بصدقٍ المُغنية الشعبية بـقولها “مطر العِشا الهرَاج” إذ أنها وغزارتها تُثيرُ الضوضاء عند ارتطامها بتلك التربة الصلصالية!. أثناء مسيرنا الحذر بذلك الشارع السلحفائي المسير، اعترى سيارتُنا عُطلاً ولم يكن هنالك بُدٌ غير تركها والسيرُ إلى أقرب حلة لجلب المُساعدة. وبالطبع اصطحبتُ “الخواجة” وترجلنا لساعات في مُمتدٍ من الأرض قد يُطلقُ عليه (no man’s land).. انتهى بنا الدربُ إلى حِلةٍ صغيرة وبطرفها كوخ بسيطٌ من القش، هرعَ صاحبه إلينا مُرحباً وكأنه وليٌ حميم!. وكعادة أهل البلد أصرَ على إطعامنا وتوفير القِرى إلينا، لنُقنعهُ بعد جُهدٍ بأننا في عجلة من الأمر لتفادي الأمطار القادمة كما أن طويلَ طريقُنا يطولُ بحوجتنا إلى قطعة غيارٍ لسيارتنا المعطوبة. وكأن الرجلُ بانتظارنا فقد قفز إلى جرَارِهِ وأدار مُحركه المُزعج وطلب إلينا الجلوس إلى جواره بالمقصورة الصغيرة وأضاف بأن قطعة الغيار معه. وصلنا إلى موقع سيارتنا بأسرعِ من ما غادرناها، واستغرق تركيب القطعةِ المطلوبة دقائق لنواصل مسيرنا إلى المدينة الكبيرة.. سألني الرجل الأجنبي كيف تعرفتُ إلى مُنقِذنا وأين. ولما أجبته بأنها أول مرةٍ في حياتي أقابله ولا أعرفُ حتى اسمه، ذُهلَ بل بُهتَ!. وبعد أن افاق من دهشته قال لي: أهذه البلاد التي تصفها أمريكا بأنها ترعى الإرهاب؟ وهل الناس مثل هذا الرجل علينا اجتنابهم كما تنصحنا دول الغرب؟. ولم أدرِ بما أجبه!. وبعدها بفترةٍ انتابني شعورٌ بأنه عندما يُخفقونَ في تسويق فرية الإرهاب تلك حتماً سيلجأون إلى سبيلٍ خبيثٍ آخرَ لضمان عدم استقرار البلاد.. أما لماذا يُصرون عدم استقرارنا، فإنه وكما قال شاعرُنا المُجيد جداً، سيد عبد العزيز: “ما أظن النهار العين تدورلو دليل”!. ودوننا ما يعتري البلاد اليوم من حريقٍ ودمارٍ وشبه ضياع.

+ الجُرم الأكبر:

في يوم من أيام شهر أغسطس من العام 1834 شدّ الطبيب الخاص لعلي خورشيد باشا، حاكم عام السودان، رحاله شمالاً إلى منطقة مروي، وفي خاطره تنفيذ خطته الماكرة بالاستيلاء على الكنوز التاريخية التي سيعثرُ عليها في الاهرامات التي شدّت انتباهه في زيارته الأولى للمنطقة وهو في طريقه إلى الخرطوم!. انضمّ جيويسيبي فيرليني لبعثة الجيش المصري إلى السودان قبل خمسة سنواتٍ، وأصبح من المُقربين للخديوي نسبةً لشخصيته الايطالية اللطيفة وبراعته في الطب، خاصةً الجراحة مع النقص الخطير وقتها في اعداد الجراحين!. ولكن احتكاكه بعُلماء الآثار الذين كانت تعُجُ بهم مصر وقتها وحديثهم المثير عن الحضارات الأولى في منطقة النيل أثارت شهيته للكنوز المدفونة بهذه المنطقة التاريخية.. وعندما نجح في الالتحاق بالبعثة العسكرية للسودان، كان همه الأوحد هو العثور على مدافن ملوكية، وقد تأكّد من أن جنوب وادي النيل هو مهد الحضارة الفرعونية. كان البروفيسور جيف إمبيرلنج رئيس قسم الآثار بجامعة ميتشيجان الأمريكية يؤمنُ بأن مروي تُمثّلُ أول مدينة مُعقدّة الانشاءات وأحدث مركز مدني في أفريقيا برُمتها حينها، ويعضدُ من زعمه ما اطلّع عليه في مخطوطات استخباراتية قديمة عُثر عليها في مخازن حكومية ببلدية مدينته تفيدُ بتفرّد الموقع الكوني لتلك المنطقة من السودان. وعندما بدأ حملته الاستكشافية عند انحناءة النيل الشهيرة قبل بضعة سنوات، عثر على ما يؤكّد نظريته باكتشافه مقبرة الملك ناستاسين الذي حكم في الفترة ما بين العام 335 إلى 315 قبل الميلاد وسادت امبراطوريته إلى ما بعد مصب النهر الخالد. إلا أن الدمار الذي خلفّه الطبيب فيرليني بجشعه في العثور على الكنوز حال دون إيجاد مخطوطات اضافية تكشف بلا مجالٍ للشك عن عظمة ملوك جنوب النيل. فقد دمّر الرجل الايطالي أربعين هرماً بالمتفجرات وأباد الهرم N6 الذي كان مدفناً امبراطورياً يليقُ بعظمة الكنداكة أماني شخيتو.. واشاع فيرليني بعد استيلائه على تلك الكنوز وهروبه إلى اوربّا بأنه عثر على خمسين أردباً من الذهب!. وعلى الرغم من ظهور بعض من تلك الآثار القيمة من وقتٍ لآخر في الأسواق السرية – تحت الأرض – إلا أن ما نهبه ذلك الرجل لم يُعثر إلا على اليسير منه. فبينما يعتقد بعض المتشائمين بأنه صهر كثيراً من تلك التماثيل والأواني ليبيعها ذهباً متغاضياً عمداً وشراً ولؤماً عن قيمتها التاريخية التي تتفوق على مكونّها الفيزيائي، إلا أن المُهتمين بالتاريخ الأوربي يؤكدون أنه فشل في بيع الكثير منها لعدم تصديق الناس بان مثل تلك المجوهرات دقيقة الصُنع قد صيغت فناً وبراعةً بتلك المناطق المجهولة من العالم!.