الأندلس المجهولة.. ماخفي أعظم

شرفة التاريخ

+++++++

 

أسرار العلم والمعارف على مدى العصور

 

الأندلس المجهولة.. ماخفي أعظم

 

بقلم: أمين حسن عبد اللطيف

ما زالت هواجس اقتراب سقوط قُرطبة الكُبرى تحت أقدام جيوش الامبراطور المُتقدمة تبعث على القلق في نفس الشيخ “ابن زيد”، إذ أن إدارة مُحافظة “إيسانا” المدنية تتطلبُ منه حماية سُكانها حتى وإن كانت جيوش الأمير تطوّق الإقليم بالحماية فُرساناً وعتاداً. تُوّجَ الشيخ “ابن زيد” مُحافظاً بعد وفاة والده وإصدار الأمير “عبد الرحمن” مرسوماً بالتكليف. كان معظم  سكان الأندلس يلقون باللوم على ضُعف الأمير الأمر الذى أدى إلى ازدياد الأطماع الرومانية بالتوسّع لابتلاع بلادهم الثريةَ موقعاً ومواردا. أيقنّ المُحافظ بأن الدولة ستسقط لا محالة، كما كان يعلمُ بمدى التغيير الذي سيجتاح البلاد ويُمحي هويتها ويجعل أعزتها أذلةً مُستضعفين، فعكف أولاً على توعية المواطنين تحت سُلطته بالخطر المُحدّق بالبلاد وتهيئتهم على وجوب الرحيل عن الديار على الرغم من دِقة وحساسية هذا الأمر، وهو القائم على أمر استقرارهم ورفاهيتهم!.

 

+  توجيهات الامير:

 

ما زالت توجيهات الأمير تترى من المركز بالحث على العمل والاستمتاع بنِعم الله على البلاد والعباد ثم الدُعاء للخليفة والأمير والمُسلمين بالبركة والقبول، وكأن الظروف مثلما كانت عليه من قبل، وكأن العرش الأندلسي لا يعلمُ بان الجيوش الرومانية على خطواتٍ من بوابات البلاد.. كان الأمير لا يقوى على اتخاذ أي قرارٍ دون الرجوع إلى الخليفة في عاصمة الدولة الكُبرى بالشام على الرغم من بُعدها، الأمر الذي أدى إلى تعطيل مُعظم المشاريع الاستراتيجية ورُبما ضُعف وتآكل المؤسسة العسكرية. في هذه الأجواء المشحونة بالهواجس والترقّب الرهيب عقد الشيخ “ابن زيد” العزم على المُغادرة وإن بدا الأمرُ للنائي خيانةً للأمانة وأنانيةً عقيمة، إلا أن السلامة والبقاء والأماني بكفاح الغُزاة من على البُعد مثّلا لضميره هدفاً سامياً ومُقنعاً.. تقعُ “إيسانا” في أقصى جنوب غرب الدولة بمُحاذاة ساحل البر الكبير (المُحيط) وسط تلالٍ وغاباتٍ كثيفة، لذلك ظلت في شبه عُزلةٍ من سُكان المحافظات الأخرى ومن أهل إقليم ما وراء البحر وبقيَ سكانها أقربُ إلى العائلة الواحدة الكبيرة، مما قد يُسهّل موقف المُحافظ المُخلص شيئاً ما، ولكن ما يتوقعه من ظلمٍ وإضرار وإجحافٍ للحقوق بسقوط الدولة يُخفّفُ عليه عِظَمُ ما يُزمعَ القيام به.. شدّد الشيخ المُحافظ من جهوده في التخطيط لمشروعه الكبير وبذل كل ما ملكت يداه في الإبقاء على الأمر طي الكتمان مع مُدير أمن المحافظة وقائد الحامية وكبير العسس، وكان كل شيىءٍ يسير على ما كان عليه من قبل فيما عدا منع جلب أو إرسال أي منتوجٍ أو سلعة خارج المُحافظة وبالتالي حظر تحركات الأفراد من وإلى خارج الأسوار الحصينة. وعلى الرغم من أن السكان أحسوا بهذا التغيير الغريب إلا أنهم لم يلقوا كثبر بالٍ للأمر إذ انهم يودعون في محافظهم ثقةً غير محدودة لأمانته وأصله الطيب وحرصه الصادق والمُجدي على رفاهيتهم وطيب وكريم معيشتهم، وتمسُّكهم بالدين الحنيف..

+  وتزدادُ اللحظة اقترابا:

 

تدرّج “ابن زيد” في خطته المُحكمةَ وانتقل في مسعاه من مرحلةٍ إلى أخرى، بتكثيف وعي السُكان بشأن الخطر الجسيم الآتي وتهيئتهم على ما هُم مقدمون عليه من تغيير دنيوي جبّار وتعودهم رويداً رويدا على التقليل من احتياجاتهم، كان ذلك في المأكل أو الملبس واقتناء الكماليات.. كل هذا والجيوش الرومانية تنهشُ في جسد الدولة الأندلسية وتبتلع لحسرة العرب والمسلمين من أطرافها شيئاً فشيئا والدولة العظيمة والمُشيدّة بالإيمان وشجاعة وإقدام الأجداد تتداعى أمام جنود الـ “فيرديناند” وتسقط المُدن تحت حوافر خيول الفرنجة الضخمة لتتوارى الجياد العربية الأصيلة استحياءً أسيفاً وفُرسان العرب على صهوتها تتهاوى كما الأنجم، وتفرُّ الأسر الملكية الكريمة جنوباً عبر البحر ومن خلال مضيق “ابن زياد” إلى ما وراءه من مغاربٍ.. والـ “ابن زيد” يُعملَ الجهود في حجب الأنباء عن أهل “إيسانا” إمعاناً في تطوّر مُخططه العجيب..

 

+  حتمية السقوط :

 

 

مع اضمحلال قوى الدولة ودنو أجل انهيارها كانت أرضيها وآفاقها تؤول تباعاً لجيوش الفرنجة. وتراكمت الفظائع المُرتكبة جُرماً وظُلماً بحق الناس على ضمير الأمير الذي لم يجد سبيلاً لوقف العُنف سوى الاستسلام والتوقيع على وثيقة تسليم الدولة للامبراطور، والتي اشترطت سلامة مواطني دولته وكأن المنتصرون لا يعتبرون انتصارهم (استرداداً) لبقاعٍ دانت ومنذ قرونٍ لمن عمروها بالعلم والمعرفة والإيمان، دون أن يؤثّر ما قاموا به في ميزان الفرنجة المدفوعين بأوامر الكنيسة العُظمى!.. وانزوى الأمير حسرةً وندماً في هودجه الفاره وموكبه الفخيم يتجه جنوباً في أثر مَن سبقوه، والدموع الملكية تتقاطر أسفاً كما النساءِ على ذهاب المُلك الذي لم يُحافظ عليه كالرجال، كما كانت والدته تنشُدُ وسط الجموع مُتباينة السحنات والألسنة والأنفس!.

 

+  المفاجأة:

 

 

مع دقات آلة حساب الزمن الضخمة بواجهة مبنى مُحافظة “إيسانا” كان مُخطط “ابن زيد” يمضي كما قُدّرَ له.. فحُفظت كل المخطوطات الزاخرة والمُقتيات الثمينة في خزانةٍ أمينة يخفى موقعها إلا على “ابن زيد” وقادة أمنه الثلاثة، كما أُخفيت بمهارةٍ الموروثات العربية التي تحوي قوانين ما يحكُمُ الحياة عدلاً ويطوّرُ معاش الناس ببنية تحتية مُتقدمة رغداً وطيباً وما يُغذّي النفوسَ رُقياً ليُرسّخ الإيمان في أعماقها. وقد كان في ذلك ما استثار رغبة الكنيسة في الاستحواذ على هذه الدولة الفريدة في المقام الأول، ووضع أمر امتلاك “إيسانا” هدفاً رئيساً لهذه الحرب التاريخية.. وعندما أزفت اللحظة التي لم يطل انتظارها كرّت الجيوش البيضاء وهي تهدرُ قوةً ويحدوها طمع الامبراطور في الظفر بمكنونات المُحافظة وثرائها المُترف، ودُكت حصونها الشامخة وحُطمت البوابة العتيدة والويل بالمذابح لأهل مدينة العلوم والمعارف على أسنة السيوف والرماح، ليقف القائد الغازي مذهولاً أمام خلو المدينة من أي روحٍ بها، وكأن الأرض انشقت لتبتلع كل ما هو حيٍ!. وبالطبع، لم تصِب أيدي الامبراطور أو الكنيسة تلك الكنوز الثمينة ولا أهلها، مما حدا بعرش قُرطبة الجديد فيما بعد إلى إرسال المُستكشفين فى بحثٍ مُضنٍ عن “إيسانا” وأهلها، تحت غطاء إثبات نظرية (الوصول إلى الشرق بالإتجاه غرباً!) ليعثروا بدلاً عنها على ما سُميَّ فما بعد بـ “الدنيا الجديدة”!..

ويبقى مكمنِ قوم “ابن زيد” ومُقتنياتهم المُذهلة سراً أميناً إلى يومنا هذا، وإن بقيت مدينتهم وعُمرانهم آثاراً يزورها السوّاح بالملايين في كل عامِ!..