مياه النيل .. صراعات منذ أزمان بعيدة

شرفة التاريخ
+++++++++
مياه النيل .. صراعات منذ أزمان بعيدة
كتب: أمين حسن عبد اللطيف
غرُبت شمسُ ذلك اليوم القاسي على الأمير الصغير أمنحوت وهو يُسترجعُ ما أسرّ له به الكاهن عن الرجل المُرسل من وراء أعالي النهر لتحذير إدارة البلاد من إنحسار قوة اندفاع المياه المتوقعة قريباً جداً. وكان ذلك هو ما استشفه مسؤول الروحانيات الأول بالبلاط الامبراطوري بعد ذبول بدر ليلة البارحة، واكتساء السماء بلون الوعيد الأحمر لعدة ساعاتٍ!. قضى ولي العهد الشاب ليلته تلك وهو يتمثّل السيناريوهات المُتوقعة جرّاء رفض والده الامبراطور اقتراحات الرسول بتقليل رقعة الأرض المزروعة للموسم الأخضر القادم.. سيُصرّح الرجل القادم من الأراضي المُرتفعة الغامضة بأن بلاده ستحجزُ مياه النهر لأشهرٍ طوال لأسباب يصعبُ على “مِهارما” العجوز فهمها على الرغم من حكمته التي اشتُهرَ بها والتي أوصلته لكرسي الحُكم متفوقاً على اخوته السبعة!، وإن كان الأمير يُدركَ أمر الحجز هذا ويعرف جيداً ما سيترتبُ عليه ذلك من إنقاصٍ في الانتاج وإفقارٍ لسُكان دولة النهر العُظمى، وبالطبع، لن يتنازل الامبراطور عن رأيه في عدم التفريط بأطنان معدن “النوبار” الثمين، والتي يحتفظُ بها لعالم الخلود الذي سيلِجُهُ قريباً بحسب نبؤات الكهنة!.
+ حائط عملاق:
أُلهمَ الأمير النبيه بفكرة تشييد حائطٍ عملاق لحجز مياه النهر والاستفادة من ارتفاع مستوى المياه خلف الحاجز في عدة مجالاتٍ، كما أقنعهُ العُلماء. لم يُفلح المُبتكرون في إقناع الملك بجدوى مشروع حجز المياه، وذلك لارتفاع تكلفة الانشاءات والتي ستتطلبُ انفاق أطنانٍ من المعدن الأصفر لجلب الأخشاب الصلدة من وراء الأراضي المُرتفعة. ونسبةَ لعدم وجود علاقاتٍ مع تلك البلاد الغامضة والمسحورة، صرف الامبراطور النظر نهائياً عن الأمر، وشغل المبتكرون في انشاء قنواتٍ للسُقيا تجلبُ المياه للسكان في دورهم وتوفّر مشقة الورود ليركزوا جهودهم في توسيع رقعة الزراعة لما وراء الجبال الشرقية، وبالتالي زيادة المحاصيل مما يُمكّن من تمديد التجارة مع دول ماوراء المُحيط الكبير..
+ النهر العنصر الأوحد:
في مفهوم الملك التقليدي كان النهرُ يمثّلُ العُنصر الأوحد لحياة ما قبل الخلود ومصدر الرزق الوحيد، بينما كان الأمير يرى أن النهر هو ليس إلا أحد مصادر الدخل القومي، والتي من المُفترض أن تُنوّع لإرتياد آفاقٍ جديدة في هذه الحياة، إذ أن التنوّع في الرزق يقودُ إلى تعدد الأفكار وغِنا العقل وبالتالي إثراء الابتكار نحو المعيشة الرغِدة والمُترفة بالفنون لتُزيد هذا الوجود جمالاً وتُزيّن حياة الخلود الأخرى بالحسنات. جاء اليوم الموعود، كما أفاد الروحانيون وقدّم الرسول المفوّه بيانه الفصيح أمام العرش، وبينّت الرسومات الضخمة التي عرضها على الحضور الملكي المَهيب أن حجز المياه سيُحرم الأراضي السُفلية من موسم هذا العام، ولكنها ستعوّض خسارتها الزراعية بالعام المُقبل بعد ان تتضاعف كمية المياه بعد فك الحجز!. وكان رد الملك المُحافظ جداً: (ومن سيضمن لنا بأنكم ستطلقون المياه بعد ذلك)؟!. وبعد مداولات ممتدة، بدت إعجازية في بعض الأحيان، تبيّن للمجتمعين أن عدم الثقة بين الطرفيْن سيؤدي لا محالةَ إلى طريقٍ مسدود. هنا تدخّلَ الأمير وعرض على والده أن يُغادر مع المبعوث إلى تلك البلاد ليتبيّن ما يجري بها وبذات الوقت يؤسس لعلاقاتٍ مع تلك المجاهل الجنوبية من القارة. لم يقبل الملك، إلا بعد معاندةٍ شديدة بعرض إبنه، إذ هو ولي العرش، بالإضافة إلى عدم ثقته بالغريب!.
+ إتساع النهر:
وفي موكبٍ ملوكيٍ جليل غادر الأمير الشاب مع الرجل الغريب وتوجها جنوباً بمحازاة النهر العظيم ليمرا بأراضٍ لم يخطرُ ببال الأمير وجوداً لها، ولاحظ الأمير النبيه أن النهر يزداد اتساعاً كلما توغّل جنوباً، كما إلتفت إلى تغيّر المناخ تدريجياً نحو درجات حرارة أقل وغيوم كثيفة وأمطار غزيرة لم يألفها بالأرض الصحراوية التي نشأ بها. وبعد أيامٍ طوال وصل الأمير بموكبه إلى مدينةٍ ممتدة تُحيطها جدران عالية جداً من الخشب الثقيل- بُغيته بالمقام الأول – ويتوسطها النهر بمجراه الواسع جداً وأمواجه الهادرة باندفاعها الشديد. ورحبت البلاد بالزائر المُكرّم واستضافته ملكتها المعبودة المُبجلّة وأكرمته بما يليق بمكانته الامبراطورية. أكتشف الأمير أن الملكة “قالبيس” تحكُمَ مملكةً متقدمة تقنياً وتملك ما لم يتخيل إمكانية وجوده من وسائل العيش المُريح، فهنالك الآليات الضخمة للزراعة، وأجهزة غريبة للاستفادة من ضوء الشمس، التي لا تسطعُ بشدة كما تفعل بمملكته الصحراوية، كما أن أهل البلاد نجحوا في تطويع الحيوانات الضخمة التي تعيشُ بأدغال بلادهم لتحريك الصخور والأشجار العملاقة. وهنا عرف الأمير سهولة إنشاء حاجزٍ للنهر المندفع بتلك المنطقة. وأدرك “أمنحوت” أن مُلك “قالبيس” لا يُستهانُ به، فهي تعلمُ كل شيءٍ عن بلاده وأسرته الحاكمة، بينما لا يعرفُ أحدٌ بأرضه عن هذه الأرض الثرية بمواردها وأهلها وموقعها المُتميّز من الدُنيا. وبعد أن تبيّن له حقيقةً ما ستجنيه أرضه خيراً عميماً من بناء الحاجز المائي بأرض الملكة المُبجلّة، عرض عليها إرسال عُمالٍ أشداء، من بُناة المعابد الضخمة وسط المياه، لمساعدتها في تشييد السد الجبّار، إلا أن “قالبيس” الحكيمة أقنعته بان الوحوش الضخمة التي طوعتها ودربتها ستحمل عن المُبتكرين عبء تحريك الأثقال فيتفرغوا لأعمال التطوير وخلق الجديد مما يُسهّل الحياة لشعبها، وربما شعوب القارة بأكملها.
+ قصة منحوتة في حجر:
وهنا وصلتُ إلى نهاية المخطوطة الكونيهيروفية التي اكتُشفت في شمال السودان، كما أفاد مُحدثي خبير الآثار بمعهد العالم العربي في باريس، وأكدّ لي أن ذلك الحجر الصخري الذي نُحتت عليه هذه القصة المُثيرة عثر عليه طبيبٌ إيطالي كان ضمن حملة محمد علي باشا، وكان خبيراً بالتاريخ ومُخلفاته، واحتفظ به حتي وفاته بالعام 1850، ويُشاع أن الحجر انتهى بحوزة خبيرٍ ألماني حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وقبل دخول قوات الحُلفاء إلى برلين منتصرةً، واختفى بعد ذلك ولم يُعثر له على أثرٍ حتى الآن، وإن كان عالمُ مُحبي ومُقتنيي الآثار مليئاً بالأسرار والقصص العجيبة، والحقائق التي تُبيّن عظمة شعوب الحضارات النيلية، والتي بدورها لا يرغبُ بعضُ قادة الدول الكُبرى في انتشار أخبارها حقائقها، خاصةً بدول المناطق الوسطى في العالم الذي نعيش به اليوم!.