أيوب صديق يكتب: من ذِكرياتي في الـ BBC .. قصيدة: رمضانُ وذلك المغرور

من ذِكرياتي في الـ BBC .. قصيدة: رمضانُ وذلك المغرور

أيوب صديق

طلب مني أخي الكريم الأستاذ حسين خوجلي أن أكتب لهم شيئًا من ذكرياتي في هيئة الإذاعة البريطانية، ولذا سأقدم شيئًا من تلك الذكريات، وهي على نسق غير منتظمِ التواريخ، وإنما هي ذكريات من هنا وهناك في أزمانها.
ولما أنني أبدأ نشر هذه الذكريات في هذه الصحيفة الحبيبة إلى النفس، لما تحمل لنا من عبق ذكريات الشباب، وفي هذا الشهر وهو شهر رمضان الحالي 2025 أجد من غرائب الاتفاق، أن أبدأ هذه الذكريات بالامتحان الذي جلست له في الخرطوم لأدخل به هيئة الإذاعة البريطانية. وأذكر أنه كان امتحانًا في يوم ذي نهار حار جدًا من أيام الخرطوم، وأنا صائم. وكان امتحانًا صعبًا مدته ساعتان، به كثير من مواد الترجمة لموضوعات أدبية وعلمية، وأخبار، وكانت الأخبار أسهلها ترجمة بالطبع. وكان علي ألا استعين بقاموس، وما كان في تلك الغرفة قاموس أصلًا. ثم هناك موضوع يعرض عليَّ لأول مرة، وبمجرد رؤيتي له أن أرتجل حديثًا عنه لمدة محددة في الامتحان.
وكان علي أن اختار موضوعًا من ثلاثة موضوعات فأكتب عنه. وأذكر أنني اخترت (الكتابة للراديو). وآخر شيء علي أسجل بصوتي قطعة غير مُشكلة، تعُرض عليَّ لأول مرة، ومن هنا يعرفون مستوى معرفتي بقواعد اللغة وخامة الصوت. جلست لذلك الامتحان وكان التيار الكهربائي دائم الانقطاع، أكتب فإذا انقطع توقفت، وكانت المرأة الانجليزية التي تراقبني تخرج من الغرفة وأظل أنا ضحية ذلك التيار. وبسبب ذلك تجاوز زمن الامتحان الساعتين. وقدر الله تعالى أجتاز ذلك الامتحان.
وذهبت على أثر ذلك إلى لندن. ومن تلك اللحظة بدأت تلك الرحلة التي استمرت ثلاثًا وعشرين سنة في تلك المدينة الضخمة.
ومرت السنوات، وفي سنة منها هل علينا شهر رمضان. وكان لنا زميل لا يصوم، ويعرف بين الناس هناك بالغرور. وذات مرة بلغني أنه اغتابني أمام نفرٍ من الزملاء، ووصلني ما قال. ولما تأكدتُ من ذلك، وكان ذلك قُبيل رمضان، فنظمتُ فيه قصيدة لم أذكر فيها اسمه، إلا أنَ كلَ من قرأها عرفه، بسبب ما تضمنته من وصفٍ لشيءٍ من خِلقته وطباعه. وأذكر أنني قدمتها لمجلة (هنا لندن) التي كان يُصدرها القسم العربي بالإذاعة، وسافرتُ في إجازة، ونُشرتِ القصيدةُ أثناء غيابي في الإجازة. وكان لها وقع قوي بين الزملاء.
ويوم عودتي من الإجازة وأنا في طريقي إلى مبنى (بوش هاوس) مقر الإذاعة، وعلى بعد أمتار منه قابلني أحد الزملاء من بني جلدة ذلك الزميل الذي هجوته بالقصيدة. وبمجرد ما رآني ذلك الزميل تذكر القصيدة، وقبل أن يُسلم علي قال لي،” ما فضل لك إلا أن تقول له يا ابن الكلب”، ثم بعد ذلك سلم علي وحدثني بوقعها بين الزملاء، وهي:

اللهم عافه واشفه

إذا ما هل شهرُ الصومِ غابَ الشــرُ واحتجبا
وكلٌ صامَ للرحمن يرجو العفوَ مُحتسِبا

ومن لم يستطعْ صومًا ويعلمُ ربُه السَببا
توارى واستحى أدبًا إذا ما اقتاتَ أو شَرِبا

ولم يَجهرْ بعصيانٍ وفي الغفرانِ قد رَغــِبا
تواضعَ كُلهم يَرجون عِندَ الخالقِ الرُتبا
**
سوى رجلٍ به صَلفٌ ترى من أمرهِ عَجبا
تراهُ إذا مَشى زهْوًا ذيولَ الكِبرِ قد سَحبا

ويلوى عُنقه تيهًا عليه الوهمُ قد غَلبا
كأنه صار فوقَ الناسِ جاوز رأسُه السُحبا

يُدخن بين من صاموا يُسيءُ الخُألقَ والأدبا
ويأكلُ لحمَ خَنزيرٍ ويُتـرعُ كأسه حَببا

بغير الاسمِ للإسلامِ بينَ الناسِ ما انتَسبا
ولا يدري من الأحكامِ ما قد سُن أو وَجَبا
ويجهلُ سورةَ (الإخلاصِ) دَعكَ مِن(النَسا) و(سَبا)

إذا قِيلَ استقمْ أخذته عِزةُ اثمهِ فأبى
يُجيدُ اللمزَ بين الناسِ والتمثيلَ والكذبا

وكم قالوا وشى بِهِمُ مشـافهةً وكمْ كَتبا
ولم ينضجْ بتجربةٍ وإن يكُ قد طوى الحِقَبا

ويَمنحُ نفسه الألقابَ مِما عَزَ مُطلبا
وإن خالفتَهُ رأيـًا رَماكَ لكِبره بغبا

ومبلغُ حظه في العلم
ما قد ظَنَ أوحَـسِـبا
وفوق الجهلِ ذو نزقٍ إذا صوبـته حَربا1
***
تواضع أيها المغرورُ واخضعْ للذي وهـبا
فتبْ واترك فعالَ السُوءِ كنْ للهِ مُرتقِبا

فهذا الشهرُ دَعوتُه لربكَ تقــهرُ الحُجَبا
فسله لَعلهُ يَشفيكَ يُصلحُ أمركَ الخَربا

فإن أمعنتَ عِصيانًا فلستَ بمـجزٍ هَــربا
ولستَ بجالبٍ شرًا
ولستَ ببالغٍ أربا

ولستَ بنافعٍ أحدًا ولستَ بكاشفٍ كُربا
وأنتَ بإذنِ ربِ الناسِ شَرُ الناسِ مُنقلبا
ـــــــــــــــــــ
1ــ حَرِب: اشتد غضبُه
نُشرت في مجلة (هنا لندن) العدد 509 مارس/ آذار 1991