أين تبكي هذا المساء

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

‎أين تبكي هذا المساء

(1)

‎رحل في صمت وصبر المهندس ورجل الأعمال ومدرج العاطلة، ومسّاح دموع الأرامل واليتامى عبد الرحمن عبدالله محجوب. وبرحيل الرجل انطوت صفحةٌ عامرة من المكرمات والصلاح من صفحات السودان. وحق لرفاعة ومدني وتندلتي وأم روابة أن تبكي بدمع مدرار لا ينقطع، فقد حوى تراب القاهرة أمس الأول واحداً من الأتقياء الأخفياء من الذين ملأوا دنيانا بالخير الهامس والعطاء الهاتف والتواضع الجمْ، والخلق العصي الرصين والفضائل حين تمشي على قدمين. وحق لعفيفات السودان أن يرسلن مع الآهات والنحيب شجو الحزينات القديم (قولوا لقطره المسافر المرة دي شيلك تقيل). ولو كتب لزائر أن يكتب بعد انفضاض المعزين لكتب على شاهد القبر القصي الآية الكريمة (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا). صدق الله العظيم.

(2)

‎أكمل الخطاط العبارة على صندوق الحافلة الجديدة ونقش في (حرفنة) اسمه (وهاتفه) لزوم الاتصال، لمن يطلب الخدمة وإعلان دائم لمن يشاهد ويركب..
‎تجمع السواقون حول اسم آخر عربة في الخط وأزاح الخطاط الوريقة بعد أن جف الحبر على خد السيارة فكان الاسم لدهشتهم (الإنقاذ) سألوا صاحبها ولماذا الإنقاذ فقال بنصف ابتسامة: (عشان ما تنقلب).

‎السودانيون أصبحوا عباقرة في النكتة يقتلعون منك الابتسامة والدموع الهواتف تكاد أن تروي الصدر والمشاعر.

(3)

‎الرباطابي يطارد طفله وخرطوش عنيد يتلوى بيده اليمنى، ولكن المطاردة لخفة الشافع بائت بالفشل فعمد الأب للمناورة (أقيف والله ما حأضربك).
‎فقالها الطفل وقد كسح خارج الدار (أومال داير تشفط مني جالون بنزين)؟.
‎ومن أراد النكات والتعليقات الساخنة والشعر فعليه بدائرة أبو حمد والمناصير هذه الأيام التي أعطت للاقتراع ذائقة جديدة وعطر وتحدي.. دائرة موسومة بالرجولة والسودانوية حين تغضب في يسر وعقلانية.

(4)

‎لا أجد تعبيراً أصدق من عبارة علي بن أبي طالب والخوارج يفارقونه ويلومونه كيف يرضى بالتحكيم وهو يعلم أن الحكم لله وليس للأشعري ولا لإبن العاص؟
‎ولأن فيهم أصدق مقاتليه وحماته فقد قال للذي أغلظ عليهم في القول وأخرج مثالبهم: إنهم أخوتنا، طلبنا الحق فوجدناه، وطلبوه فلم يجدوه.
‎هذا ما قاله أبو تراب، فيا ترى ماذا يقول المهاجرون أو بالأحرى المهجرون من بناتنا وأولادنا الملتحقون والملتحقات الخوارج الجدد والدعامة؟. وماذا نقول نحن وماذا يقول التأريخ الذي استدار دورته كاملة حتى عاد كهيئته الأولى؟.

(5)

‎وعندما وطأت أقدام الشاعر الراحل محمد عبد القادر كرف أرض أثيوبيا قبل الانفصال ذهب إلى أسمرا وسأل عن قبر عميد فن الغناء السوداني الحاج محمد أحمد سرور 1901- 1946 وكتب الأبيات التالية، بل نقشها ومازالت موجودة (وهو بالمناسبة معلم وشاعر وباحث وخطاط):

‎سبّحت أول ما صدحت مغردا
‎باسم الديار وكنت أبرع من شدا
‎ولك الروائع من أغانيك التي
‎مازال يسري في النفوس لها صدى
‎يا باعث الفن الأصيل تحية
‎من شاطئ النيلين يغمرها الندى
‎تغشى ثراك وتستهل غمامة
‎تهمي وتسقي بالدموع المرقدا

‎ترى متى يقوم متحف الإبداع السوداني الذي نجد فيه أسطوانات سرور وديوان كرف والآخرين. وعندما أكملت الجملة قلتُ من داخل قلبي بصدق الحمدلله أن هذا لم يتم، فلو تم لكان مصيره مصير المتحف القومي وبيت الخليفة ودار الوثائق، والمئات من دوائر المعارف والتوثيق التي دمرها الأوغاد في محاولة يائسة لطمس تاريخ هذه الأمة المجيدة ولكن هيهات.

(6)
‎كتب البروفيسور عبد الله الطيب مقال “الحكومات المتاح والأمر الواقع، الشللية باهتة باردة، وفاشل من بها يستعين” الأيام الأسبوعي 6647 السنة 19 السبت 3 يونيو 98.. ولكن بيت القصيد عبارته (عادة تضييع القوم لمن يكون مفرط النجابة من أبنائهم قديمة ولعل أصلها عربي.. وأن منشأ ذلك من حب المساواة الذي يخالطه نوع من الحسد). ولا تعليق.

(7)

‎هذا الفتى الطائفي المدلل (كيف نسايروا) لم يقابل الصحافة ولا الإعلام ولكنه فصل كل الذين تعرفهم الصحافة ويعرفهم الإعلام من أهل حزبه المشرذم وطائفته البائدة ويبدو أن (ضبح الكديسة قد انتقل من ساحة الزفاف إلى ساحة العمل السياسي المهاجر). ويبدو من واقع الحال أن نتائجه أجتماعياً وسياسياً مازالت باهرة وواعدة.

(8)

‎أعظم انتقاد يمكن أن يقال في حق هذا الحزب العتيق، ما أستلفنا له عبارة الإمام الشيخ محمد عبده: (من الناس من يحبون أن يقعدوا في صندوق من الجهل ويقفلوه على أنفسهم حتى لا يأتي فاتح يفتحه ويفرج عنهم).
ليت بُرمة يقرأها ولكنه للأسف لا يقرأ

(9)

‎أغلى جملة قالها المحجوب وهو يغادر إلى لندن بعد إنقلاب مايو وظل يرددها حتى حفظتها وردية العمل بالدرجة الأولى: (نلتقي الكثير من الرجال الذين يتكلمون عن الحرية.. إلا أن القليل منهم من لم يسهم في صنع القيود).
‎دعونا نستثمر العبارة ونفجر المسكوت عنه (ترى هل سكت المحجوب عن إنقلاب أولاد الهاشماب ورفاقهم رغم أن كل المعلومات (فايتة أضانو)، وكان رئيساً للوزراء ترى هل أراد أن يعاقب الصادق فعاقب كل الشعب السوداني) أعزائي من يجرؤ على الكلام؟!.
هي دعوة لإعادة كتابة التاريخ خاصة وأن ذكرى مايو على الأبواب.

(10)

‎المعركة في كثير من الأحيان والثورات والمظالم لا تقع في الكم، ولكنها تقع في الكيف وقد استوقفتني عبارة ابن السمّاك المتمرد
‎لولا ثلاث لم يقع حيف ولم يسل سيف
‎لقمة أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه (أو أملح)، وسلك أنعم من سلك

‎أرجو وفي الحصة الأولى أن يخرج أي مدرس طباشيرة الصباح ويقرأ الفاتحة ويكتب ويعاود حتى يحفظ التلاميذ
‎جعلي ودنقلاوي وشايقي أيه فايداني
‎غير ولدت خلاف خلّت أخوي عاداني
‎خلوا نبانا يسري مع البعيد والداني
‎يكفي النيل أبونا والجنس سوداني

وليت العبادي قال: يكفي الدين ابونا والجنس سوداني فهو لا يعلم أن النيل أصبح مهددا بسد النهضة وبهجرات الأوباش والمُسيرات، بعد ان عفا الزمان على المسرات والمَسيرات.

(11)

بالأمس قصف صاروخ اسرائيلي على خيمة نائية اغتال فيها أسرة كاملة أمًا وأبًا وأطفال، وعلق المذيع قائلاً: بعد أن حدثنا عن تفاصيل الخير ولوعة على صدره ودمعة على عينه لقد مسحت هذه الأسرة تماماً من السجل المدني، ومثل هذه بالعشرات فعليكم أن تتخيلوا لو أن هذه الأسرة كانت حدثًا في قلب تل أبيب؟ إذن لإنتفض ترامب وآلة الإعلام الجهنمية الصليبية والصهيونية ولملأت الدنيا ضجيجًا أدنى ما فيه من صخب أن الجحيم على الأبواب.