عثمان خالد .. شاعر القمر والنجوم

عثمان خالد .. شاعر القمر والنجوم

بقلم: أمير أحمد حمد

ياقلبي يا مكتول كمد
أعصر دموع هات
غنوة لي سيد البلد
يا حليلو
يا حليلو قال سايب البلد
ياحليلو كيفن يبتعد
وكيفن نسيبو يروح بعيد
في رحلة مجهولة الأمد
يا حليلو ياحليلو

عندما كان الفنان حمد الريح يصدح بهذه الكلمات بصوت ينضح حنية ولحن أحن من الكلمات في واحدة من ليالي أفراح العاصمة وفي واحد من أحيائها كان شاعر هذه الكلمات يستمع إليها وهو على فراشه، نفس الكلمات التي كتبها بدمه يستمع إليها بصوت شجي حركه من سريره، إلى مكان الصوت ليلتقي بصاحبه الذي تغنى بكلماته قبل أن يتعرف على ذاته. وبعد أن إنتهى حمد من وصلته الغنائية تقدم إليه الشاعر وهو يرتدي جلبابًا، عرفه بنفسه وأنه شاعر الأغنية التي تغنيت بها قبل قليل أغنية إلى مسافرة. بادره حمد: عثمان خالد! نعم إنه الشاعر الوسيم، الخلقة والوسيم الكلمة والعبارة، يأتي بمفردات تقطر عذوبة وروعة في تناسق وجرس موسيقي يجبرك أن تستمع إليه، كيف لا يكون وسيم الكلمة وهو إبن بارا الساحرة، كان مولده فيها في النصف الأول من أربعينيات القرن الماضي 1943 وتلمس خطى تعليمه الأول بها ثم أكمله في الخرطوم. وعمل موظفًا بالبنك المركزي، ويبدو أن نفسه الشاعرة تمردت على لغة الأرقام والحسابات فهجر المهنة إلى غير رجعة، فعمل بالصحافة وإلتحق بجريدة الأيام وصحف أخرى في السودان، وهاجر إلى العراق وعمل بصحافتها أيضًا. الشاعر عثمان خالد، شاعر جدير أن يحتفي به المتذوق والمستمع السوداني، فهو شاعر مجيد ومتمكن وجزل العبارة رغم أن أغنياته قليلة العدد لكنها كثيرة في طربها اللفظي، وجرسها المتناسق فقيض الله لها ألحان جعلتها حضورًا أنيقًا في وجدان المسنمع السوداني فاقت حد الروعة.
وعندما غنى حمد إلى مسافرة في نهاية الستينيات 1968 كان وردي متواجدًا عند أهله في صواردة واستمع لهذه الأغنية وأعجب بها غاية الاعجاب، وعندما حضر إلى الخرطوم إلتقى بحمد، وعبر عن اعجابه بكلمات وألحان الأغنية بعبارة: (لقنبلة دي جبتها من وين)؟.
وبعد عامين من قنبلة حمد فجر أسطورة النغم عثمان حسين قنبلة أخرى من قاعدة عثمان خالد الشعرية أغنية ست البنات المشهورة بـ (تستاهلي)، وتستاهلي ألبسها عثمان حسين لحن من مناجم ألحانه الثمينة، فزادت وتمددت شهرة شاعرنا بهذه الأغنية الجميلة:

والله يا أحلى البنات
لو كان لقيت سر الغنا
كان طرت عانقت الخيال
وحلقت عبر الأزمنة
وقلت الخيال يصبح حقيقة
ونهدي ليك خاتم المنى
عشان تسرحي وتتخيلي
وتتوهي في بحور الخيال
وتتمني فيها وتسالي
ويتم ليك كل المنى

كلمات رائعات ولحن أروع يحلق بنا فوق سحابات الخيال وتستاهل المحبوبة الملهمة للشاعر لو أرادت من قلب القمر باقات أساور أو حلي أو حتى من كل النجوم عنقود مبهرج منطلي. يا سلام على حلو الكلام محبوبته جعلها أحلى من القمر حينما خف إلى لقائها مستجيبًا لطلباتها كما ذكر الشاعر.
ويبدو أن الشاعر قد كانت له جارة ألهمته نظم هذه القوافي وكانت سببًا في كل هذه التداعيات الشعرية الرائعة. أليس هو القائل بصوت محمد ميرغني وعبر أنغام حسن بابكر:

سمحة سمحة الصيدا
ما جارتنا وبت حارتنا
وبنريده
مرت بالروح زي النسمه
لوحة فنان وجمال رسمه
بي لفتة تسالم ومنقسمه
تسالنا عنا غنوة جديدة

ابداع وصفي، عميق شبه مرورها كمرور النسمة على الروح ، وأكد الشاعر اعجابه بجارته الملهمة بتصريح صريح دون استعارة أو كناية كما يقول أهل البلاغة عندما صرح بحلاوتها بصوت فنان آخر عبد العزيز المبارك، وعلى أنغام وألحان الأستاذ عبد اللطيف خضر:

أحلى جارة يا أحلى جارة
عطرتي كل الدنيا وإنت مارة
وحات حرير خديك وحات نضارا
سالمينا لو بالعين، أو بالإشارة

ولربما لم تستجب له تلك الجارة وتبادله الشعورنفسه فسمعنا كلماته المعبرة عن ذلك على لسان إبراهيم عوض أغنية قلبك حجر والتي يقول فيها :

ولو ما بتحن
مالك مضوق قلبي في دنياك مر
يا بهجة يالهفة مشاعر الناس ويافرح العمر
قبال أشوفك كنت شوق من شوقه غرقان في بحر

إلى أن يصل:

مالك قسيت وإنت الحنان والرقة والوجه النضر
وإنت العليك غنينا دوخنا الشموس
بكينا القمر
من ألحان عبد اللطيف خضر ولكنها لم تجد حظها كثيرًا من الإنتشار والذيوع ، وأكد ذلك أيضًا على صوت عبد العزيز المبارك في الأغنية جهيرة السيرة: بتقولي لا والتي أبدع في تلحينها سعادة الرائد الموسيقار الفاتح كسلاوي:

بتقولي لا لقليب يقطر حنان ويدوب وله
وبتقولي لا لقليب رهيف ما أظنو لا لا بيحمله
بتقولي لا يا بهجة يا غالية يا مذهلة
وحياة شبابك شفت في عينيك حنان ومغازلة
سافرت في رحلة مشاعر ملهمة ومتأملة
شفت الورود من وجنتيك غيرانا جات متوسلة
وحتى القمرغاب من صفاك أصبح يردد في الصلاة

كلمات تقطر عذوبة متناهية، وتسيل دموعًا ممزوجة بطعم لا يستبنه اللسان إن كان حلوًا أو مرًا. والملاحظ في مفردات الشاعر عثمان خالد، بعضها متكررًا في أغنياته ولكن يبقى لفظ القمر والنجوم أكثر ذكرًا في كثير من أغنياته كما أوردنا في النماذج السابقة، وفي بالي أيضًا أغنيته الجميلة التي صدح بها إبن البادية، رحلة عيون والتي تبدأ بـ:

ننساك إنت إنت بتنسي
ما إنت روحنا وحبنا

إلى أن يصل إلى قوله:

حتى القمر حولو النجوم إتلفوا فيك واتغزلوا
إلى نهاية الأغنية. وبهذا يحق لنا أن نطلق لقب شاعر القمر والنجوم على شاعرنا، عثمان خالد الذي انتقل إلى جوار ربه في مارس1993 له الرحمة والمغفرة .