إستراحة قلم .. حكايات في التوحيد الشعبي لغير المتخصصين

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
إستراحة قلم
حكايات في التوحيد الشعبي لغير المتخصصين
+ خروجاً عن باب ساس يسوس سياسةً لهذا الراهن البائس المثخن بالجرائم والجراح والدماء، تلك المنظومة السوداء التي تعنتت وإستعصت على المفردات والبيان، فقد هربت اليوم من الكتابة في هذا الباب المحبط إلى بعض القصص والحكايات السودانية علها ترسم إبتسامة على “تلك الشفاه اليابسة” وتدعو الجميع إلى التأمل والإستغراق العرفاني.
قصصتُ على أحد رجال الدين الشباب وهو رجل صاحب باع في الفقة والتصوف والالتزام أو كما يقول السودانيين “رجل بركة”، قصصت عليه ثلاث حكايات عن التدين الشعبي للسودانيين وبعد كل حكاية كان يصيح الرجل الصالح بأعلى صوته ..الله أكبر.. “والله أن هذا لهو باب في التوحيد كبير”.
+ الحكاية الأولى .. حدثني أحد الأخوة بأن والدته “الشايقية” التي لا تحتاج إلى هوية والشلوخ الثلاثة بائنة على وجهها الطاهر تنبئ عن القبلية والمنطقة وكانا في رحلة الحج، وطيلة فترة الحج وما بعده كانت مجموعات من الأخوة السودانيين يقبلون نحوي مصافحين بعباراتهم اللطيفة (كيف يا أبن العم) وهي دلالة عن المعرفة والدم والوحدة ويردفونها بقولهم “كيف أخبار السناجك هنا وفي السودان”، وأسألهم بتعجب عن كيف عرفتهم أنني من تلك الأرض الطبية فيشيرون ضاحكين صوب شلوخ والدتي “إن المكان مشغول بحركة المناسبة” وبفضل شلوخ والدتي أقمت علاقات مع عدد مقدر من أهلنا الشايقية في كل بقاع السودان بفضل هذه الشلوخ الندية التي حاربها وأخواتها الرائع الشاعر عبد الرحمن الريح في أغنية الشهيرة ” ما شوهوك بفصادة على الخدود السادة طبيعي خلقة ربك ما دايرة أي زيادة”، وأذكر أنني في أحدى الحلقات التلفزيونية التي غنى فيها الفنان الكبير كمال إبراهيم سليمان الشهير بـ(ترباس) هذه الرائعة وعندما أتى لمقطع “ماشوهوك بفصادة” أوقف الأستاذ المعلم والموسيقار أستاذ الأجيال علي ميرغني العزف ومنع الأوركسترا من الأستمرار قائلاً بصوت غاضب “لا يا ترباس” الصحيح “ما جملوك بفصادة” ومن المعلوم أن الأستاذ علي ميرغني تطل من وجهه الحبور ثلاثة شلوخ مستقيمة ويبدو أنهم في ذلك اليوم أخطأوا الاتجاه.
نعود للصديق ابن الشايقية حيث قال: شددنا الرحال إلى مدينة المصطفى صل الله عليه وسلم، وصلت الوالدة ركعات في روضة الحبيب المصطفى وفي غفلة من الحراس هرعت مهرولة بسرعة الصاروخ وأمسكت بسياج ضريح المصطفى الحديدي ودخلت في نوبة من البكاء العرفاني الطويل فأنتبه لها أحد الحراس وأمسك بها وإقتلع يدها في غلظة قائلاً: يا حرمة هذه حديد لا يضر ولا ينفع فإلتفتت إليه بلهجة أهلنا في الشمال وهي خليط ما بين الود والغضب “أنت قايل يا خرابة نحن في كريمي ما عندنا حديد” فضحك السودانيين الذين كانوا بجوارها فأصبحت عبارتها حديث الجالية بالمدينة المنورة.
+ الحكاية الثانية : حكي لي الفنان الكبير الموسيقار الراحل عبد الكريم الكابلي وهو صاحب نوادر وحكايات عن المجتمع السياسي والثقافي والفني والرياضي لو كتب بعضه لصار واحد من أروع كتب التوثيق في الحياة السودانية في شتى أوجهها، حكى لي أنه في وفاة الفنان الرمز الرائد إبراهيم الكاشف وحين خرج جثمانه الطاهر صوب أحدى مقابر أم درمان يشيعه المئات من إبناء أم درمان وكان في مقدمتهم الوسط الفني من مطربين وعازفين وشعراء لفت إنتباه الجميع أن الفنان الشعبي الراحل صديق الكحلاوي صديق العمر وراوية الكاشف رفع صوته برائعة الشاعر عبيد عبد الرحمن “حجبوه من عيني إلا من قلبي لا لا ما قدرو حجبوه” فإنما الأغنية هذه لم تكتب في الغزل وأنما كتبت لوداع هذا الفنان الكبير في لحظاته الأخيرة وقد أبكى الكحلاوي الجميع بهذه الأغنية الرامزة وبعد إنهاء مراسم الدفن والترحم على الفقيد إلتفت أحد المشايخ نحو الكحلاوي مداعباً ألم تجد ما تترحم به على الكاشف سوى هذه الأغنية وأنت تعلم أن هذا مقام ترح وليس مقام فرح، فرد عليه الكحلاوي بسرعة بديهته المعهودة : يا مولانا الحق تعالى بحاكم الزول بالبعرفو وأنا ما عندي معرفة وصدق غير دا”، فكاد المشيعون أن يهتفوا بحياة الكحلاوي الذي إستطاع أن يعبر عن فقده بهذه الكلمات الحزينة الباهرة .
+ الحكاية الثالثة .. أحتفظ في ذاكرتي الصحفية والإعلامية بمجموعة حوارات لم تكتب مع الكثير من المبدعين وهذا الفن وهذه المهنة تظل أقوى مران لتنمية الذاكرة وتوسيع مقار الحفظ فيها ومن الحوارات التي بقيت في الذاكرة دون أن تتنزل على الورق جلسات من الحوار الذكي مع الشاعر والدبلوماسي والصحفي الإعلامي والسياسي أبو آمنة حامد عليه الرحمة والذي كان كاتباً في أخيرة ألوان في بابه اللماح “دبايوا” سألته يوماً مستنكراً صحي يا أبو آمنة أنت مشيت السعودية ولم تعتمر، أجاب بطريقته الساخرة القارصة “أنت ما عاقل يا حسين أنا رب العزة دا أرجف منه هنا في السودان دايرني أمشي ليه في بيتو”، ترى هل صح هتاف الراجل الصالح حين قال “والله أن هذا لهو باب في التوحيد كبير” أم أن في الأمر عجب.