بورتسودان في حضرة تشرشل والمتنبي وبرهان

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
بورتسودان في حضرة تشرشل والمتنبي وبرهان
1- دائما ما تذكرك المآسي والأحزان والفواجع الرجال الكبار في العالم حتي ولو كانوا خارج عقيدتك وجغرافيتك وتاريخك، ومن هؤلاء الرجال الأفذاذ البريطاني السير ونستون تشرشل المولود 1874م وقد غادر دنيانا 1965م وكان من أركان حزب المحافظين أغلب حياته، وقد تقلد الكثير من المناصب الرفيعة منها رئيس وزراء المملكة المتحدة لفترتين هامتين في تاريخ بريطانيا والعالم الأولي كانت خلال الحرب العالمية الثانية 1940 – 1945 وفترته المشهودة الثانية في عام 1951م – 1955م، وله تجربة في البحرية والمالية والداخلية ومناصب مرموقة في تاريخ المملكة المتحدة، وسجل الرجل حافل بكثير من الإنجازات الكبيرة والمرموقة منها أنه قاد بلاده للنصر المؤزر ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.
وعمله في الصحافة كمراسل حربي وهو بالمناسبة شهد معركة كرري ووثقها في كتابه الشهير (حرب النهر) وله سفر آخر عن الحرب العالمية الثانية (مذكرات الحرب العالمية الثانية) وقد سجل له الإعلام البريطاني المشاهد والمسموع والمقروء خطبه الحماسية البليغة التي أذكت الحماسة وألهبت المشاعر للصمود في وجه المعركة الشرسة التي قادها الرايخ.
ومن غرائب تاريخ الرجل أنه وقف بشجاعة ضد السياسات الإمبريالية للمملكة المتحدة ضد مستعمراتها أشهرها الهند والسودان وفلسطين وكان موقفه التاريخي هذا مثار إنتقاد معارضيه ورغم رتبته العسكرية الكبيرة وقيادته للمعركة التي أفضت للإنتصار إلا أنه كان رقيق الحاشية وكاتباً من الدرجة الأولى ما أهله أن ينال جائزة نوبل للآداب عام 1953م، وقد هب الآلاف من البريطانيين لوداعه بعد أن بلغ ال90 عاماً وقد أقيمت له جنازة رسمية. ويعد هذا تكريماً نادر أن يمنح لغير أفراد العائلة المالكة وقد كسر بجنازته رتابة التقليدية الملكية مثلما كسر بشجاعته وثباته عظم الإمبراطورية الألمانية النازية (طق) وفي أغلب الأبحاث واستطلاعات الرأي الموثقة والموثوقة فقد كان الرجل يعتبر من أعظم الشخصيات البريطانية في التاريخ وفق آخر استفتاء أجرته هيئة الأذاعة البريطانية “بي بي سي”.
تذكرت الرجل وهو يقف وسط لندن المهشمة بطائرات ألمانيا النازية حين أقترح مجموعة من القيادات السياسية والعسكرية على تشرشل الاستسلام أو بالحد الأدنى الهدنة فأجابهم بشجاعة ورباطة جأش هل يذهب الطلاب إلى المدارس كل صباح؟ فأجابوه بنعم. وأردف قائلاً: وهل يذهب الناس للمحاكم للتقاضي؟ فأجابوه بنعم أيضاً. فقال بإبتسامة مضمخة بالشجاعة والرضا: إذا كان التعليم بخير والعدالة بخير فلن يطال بريطانيا سوء. وبذات هذه الكلمات يمكن أن نخاطب بورتسودان الجريحة وكسلا والخرطوم مادام التعليم والعدالة والمقاومة والجيش بخير فلا بأس على السودان والسودانيين.
2- ومن الكلمات الباذخة في حق شجاعة الإنسان السوداني ما قاله تشرشل المراسل الحربي في كرري وهو يرى آلاف السودانيين وهم يتدافعون نحو الموت قبل أن تطأ أقدام الغاصبين أمدرمان العريقة الصابرة وقد عبر عن ذلك في كلماته الخالدات في (حرب النهر): إنهم أشجع رجال مشوا على وجه الارض” ..
( Yet these were as brave men as ever walked on earth )
وأردفها بقوله: تقدموا نحو حتفهم بثبات. قصفتهم مدفعيتنا قصفاً شديداً ولكنك رغم ذلك كنت ترى صفوفهم المتراصة تتقدم نحونا.. وعندما كانوا في مرمى مدافع المكسيم .. كلما تساقطت جثث قتلاهم .. كانوا يجّمعون صفوفهم ويتقدمون للأمام بشجاعة فائقة .. لقد كان هذا اليوم آخر أيام المهدية ولكنه كان بحق – أعظمها على الإطلاق .. لم يتراجع العدو قط .. لم تكن كرري معركة .. بل كانت حادثة إعدام ابطال!.
3- وفوق أنه كان مقاتلاً وقائداً وصحفياً وأديباً وسياسياً إلا أنه كان ديمقراطياً وصاحب إيمان عميق بالحريات وزيادة على ذلك فقد كان صاحب دعابة وظرف وسرعة بديهة. ومن أطرف ما قرأته له أن أحد الناشطين المعارضين شتمه بغلظة أمام جمع من الناس والصحفيين وأتهمه بأنه أغبى وأبلد قيادي في تاريخ بريطانيا العظمى، فقام جهاز المخابرات بإعتقال الرجل للتحقيق معه، وعندما حضر تشرشل للبرلمان في اليوم الثاني هاجمه مجموعة من النواب المعارضين وأتهموه بأنه وجهاز المخابرات قد أنتهكوا حق المواطن القانوني في التعبير عن نفسه، فرد تشرشل ببساطة وسخرية: (لم تعتقل المخابرات الرجل لأنه أساء لرئيس الوزراء ولكن لأنه كشف للعالم مجاناً أحد أسرار الإمبراطورية). فضج البرلمان بالضحك المتواصل، وفي ذات المقام تبقى الإبتسامة الوحيدة المتاحة للقيادة العسكرية والسياسية والمدنية والشعبية في بورتسودان وكسلا وبقية الشرق المهيب أبيات أبو الطيب الرامزة:
وَقَفتَ وَما في المَوتِ شَكٌّ لِواقِفٍ
كَأَنَّكَ في جَفنِ الرَدى وَهوَ نائِمُ
تَمُرُّ بِكَ الأَبطالُ كَلمى هَزيمَةً
وَوَجهُكَ (وَضّاحٌ) وَثَغرُكَ باسِمُ
تَجاوَزتَ مِقدارَ الشَجاعَةِ وَالنُهى
إِلى قَولِ قَومٍ أَنتَ بِالغَيبِ عالِمُ