حكاية سودانية .. ليلة البحث عن أمدرمان

ولألوان كلمة

 

حسين خوجلي

حكاية سودانية

 

ليلة البحث عن أمدرمان

مدينة أمدرمان في منتصف السبعينات كانت يومها ناضرة ومكتفية وعامرة بأهلها، تجمعها ثقافة واحدة وحبٌ وتعارف فكأنها أسرة واحدة. إنها أمدرمان التي صاغتها الحركة الوطنية والأحياء المتحابة والأدب والفنون.
وكانت صينية مكي تربط بين الشوارع الأكثر ازدحاماً في أمدرمان صباحاً حين يتجه الناس إلى أعمالهم وأغراضهم. وفي الظهيرة ساعة الذروة يعودون إلى الحارات والبيوت فقد كانت تربط شمالاً كل أحياء أمدرمان وقراها المتجهة صوب سوق أمدرمان أو سوق الخرطوم، ومكاتب الحكومة أو صوب سوق بحري، والشارع القادم من بحري عبر كبري شمبات وصوب السوق، أو الخارج من سوق أمدرمان. كان تقاطعًا مزدحمًا بالسيارات والراجلين وكان يديره في حنكة واحترافية رجل شرطة المرور جبريل بملابسه البيضاء الناصعة كأنّه ذاهب إلى حفل عرس بإطلالته الرياضية وجسده النشط الممشوق وسمرته الزاهية التي كأنما خلقت خصيصاً لتبيان ابتسامته الوضيئة التي لا تفارق وجهه الطيب، رغم وعثاء المهمة وطول الوقوف والانتباه وتحريك اليدين لساعات خاصة حين ينقطع التيار الكهربائي وتتوقف إشارة المرور “الأستوب”.
كان الجميع يكنون حباً خالصاً لجبريل وكانوا يعبرون عن هذا الحب بالإشارات والسلام والمناداة بأسماء وكنيات وألقاب متعددة حسب الثقافات والمزاج، وهو يلوح للجميع “صباح الخير يا جبريل، كيفك يا جيبو، سلامات يا جنابو، يا سعادتك، يا جميل، يا حبيبنا، يا حبيب القسا” ويهطل غيث المسميات وهو يرد علي الجميع بابتسامته المعهودة.
قابلته مرة في قسم المرور الواقع قبل بوابة عبد القيوم (وهي بالمناسبة ليست شقيقة الصحفي المخضرم إبراهيم عبد القيوم ولا الشاعر علي عبد القيوم وهي من العبارات التي يتندر بها أهل الصحافة والأدب) دخلت القسم لإجراء ما وكعادته أكمل الإجراءات على أتم وجه، وبالسرعة المطلوبة، حيث يكن له الضباط ومدير القسم تقديراً خاصاً. ولم يُعهد عنه قط أنه فرض جزاءً أو مخالفة إلا مضطراً، حينما يكون الاصطدام مدوياً والخسارة فادحة يتدخل وفي قلبه شيئ من حتى وغالباً ما يصلح بين الخصمين ويُفتي بين الجاني والمجني عليه وغالباً ما يكون بالتسوية “برانية” حيث يصلح الجاني ما أتلفه في عربة الخصم والذي يصير صديقاً بطريقة التعافي السودانية الشهيرة.
أصر عليّ بعد إكمال الإجراءات أن أتناول معه كوب شاي في بوفيه الحركة وسألني عن الوالد وحي القرشاب بودنوباوي الذي كان يعرفهم فرداً فرداً، وحمّلني سلامًا خاصًا لظرفاء أمدرمان القديمة الذين رحلوا تباعاً بعد أن تركوا تعليقاتهم المبهرة ولطائفهم المتداولة التي طبعوها على خد المدينة الندية الولوف “أحمد داود، كمال سينا والهادي نصر الدين” وكان للهادي تعليق معروف بين أهل أمدرمان عن جبريل “إن أمدرمان بخير ما دام جبريل يوزع ابتسامته صباحاً زي الكاكاو باللبن” وأضاف جنابو: عليك دينك يا حسين كان قابلت ليلى وبولاد قول ليهم تحية خاصة لشرطة المرور في إشراقة الصباح، ولو قابلت سيف الدسوقي قول ليهو لو تمر رسل تحية”
وقد وجدتها فرصة ونحن نرتشف أكواب الشاي أن أحكي له حكاية وألقي عليه قصيدة قلت له: إن كثرة الأسماء والألقاب التي تتلقاها كل صباح تذكرني حكاية الأعرابي الذي صاد سنورًا فلم يعرفه فتلقاه رجل فقال: ما هذا السنور؟
ولقي آخر فقال: ما هذا القط؟
ثم لقي آخر فقال: ما هذا الهر؟
ثم لقي آخر فقال: ما هذا الضيون؟
ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيدع؟
ثم لقي آخر فقال: ما هذا الخيطل؟
ثم لقي آخر فقال: ما هذا الدم؟
فقال الاعرابي: أحمله وأبيعه لعل الله تعالى أن يجعل فيه مالًا كثيرًا، فلما أتى به إلى السوق قيل له: بكم هذا؟
فقال: بمائة درهم
فقيل له: إنه يساوي نصف درهم.
فرمى به وقال: لحاه الله ما أكثر أسماءه وأقل ثمنه.
هنا أطلق جبريل ضحكة صاخبة حتى أخرجت الضباط من مكاتبهم متسائلين وقال لي بظرفه المعهود: بس أنا الكديس دة يا حسين، أسماء وألقاب كثيرة وراتب لا يكفي إلا لسبعة أيام. وأخرج من جيبه دفتراً وأصر أن أكتبها له ليقرأها على أهل الحارة وأصدقاء الحي.
أما القصيدة فقد قرأت وكتبت له أبيات العقاد الكاتب والشاعر والمفكر والسياسي الكبير، والذي اشتهر عنه أنه كان يقطع شوارع القاهرة القديمة جيئة وذهابًا راجلًا لا يستعمل سيارة خاصة ولا عامة وقد كتب في شرطي المرور:

متحكــمٌ فــي الراكـبين
ومــا لــه أبـدًا ركوبـة
لهــم المَثُوبَـة مـن بَنَـانـك
حيـن تأمر والعقوبة
مُرْ ما بدا لك في الطريـق
ورُضْ علـى مهـل شعوبه
أنــا ثـائر أبـدًا ومـا
فـي ثـورتي أبـدًا صـعوبة
أنــا راكــب رِجْلِــي فلا
أمــرٌ علــيَّ ولا ضــريبة
وكـــذاك راكـــب رأســه
فـي هذه الدنيا العجيبة

ومن حكايات جبريل التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في مجالس أمدرمان البريئة وغير البريئة، أن حسناء مليحة من بنات الأسر العريقة والثرية بأمدرمان كانت ذاهبة للخرطوم لأداء ورقة امتحان بالجامعة، وتوقفت بعربتها الزيتونية الفارهة عند الأستوب حيث أضاء اللون الأحمر وقد نسيت نفسها وهي تراجع مذكرة الامتحان القادم بعد ساعة. أضاء اللون الأصفر وأضاء اللون الأخضر ولم تنتبه ولم تحرك ساكنًا وظلت غارقة في المراجعة على طريقة “علوق الشدة” الذي أشتهر بها الطلاب والطالبات السودانيين.
هنا أنطلقت أصوات “البوري” والزامور وتصايح أصحاب السيارات محرضين جبريل علي إنزال أشد العقوبات على الصبية فإذا به يقترب من السيارة ويطرق الزجاج بأدب فإنتبهت الصبية “بت العز” بإنزعاج وقبل أن ترسل اعتذارها فاجأها جبريل بعبارة مدح وغزل أخاذ: “دي يا ندوية كل تشكيلة الألوان العندنا تسمحي نعيدا ليك تاني؟!” وضج المحفل بالضحك والقهقهات وسار بالعبارة الركبان.
غادر الجميع أمدرمان بعد النكبة والاجتياح وصارت رَبعاً خالياً من الأسر الكريمة والأحياء الفياضة بالبِشر والبشارة والكرم والاعتداد، غادرها الصبيان الممتلئون بفضائل المساعدة والعون والوقوف عند نوائب الدهر، والصبايا اللائي كن يملأن الشوارع الغر والمضايق عفافاً وجمالاً وملاحة كأنما عناهن الخليل وبصم على الجباه الساطعات أنفة وجلالاً أبياته الشهيرات:

منظر الغزلان في الحدائق
والشوارع الغر والمضايق
قولي كيف أمسيت دمت رايق
ودام صفاك مشمول بالنظام

عزيزي القارئ قال الشاهد فإن أكملتم المشهد والحكاية فأبحثوا معنا عن جبريل والذكريات والتلقائية والبشاشة والطلاقة والكمال. أبحثوا معنا عن أمدرمان فلعلكم تجدونها ولو مصادفةً بين المدارات والكواكب أو في مرافئ السفر المستحيلة أو في سهر الشوق في العيون الجميلة