التاج مكي .. الصبر على الأشواق

التاج مكي .. الصبر على الأشواق

بقلم: أمير أحمد حمد

حبيت عشانك كسلا
خليت دياري عشانك
وعشقت أرض التاكا الشاربة من ريحانك
كلمني قول لي فاكر ليالي القاش
لما الحنين عاودني لعطفك الجياش
جافيت حبيب ماخانك من نور بسيمتك عاش
فرحت ليالي الريد ونداوة البسمات
خلتني أبكي وأندم على عمري روح وفات
في حسرة سنيني الراحت مابترحم الجايات
ندمان عليك يا عمري ندمان على الكلمات
ندمان على كل ريد في كسلا
صوت السواقي الحاني ذكرني ماضي بعيد
وعلى الرمال آثارك طرتني ليلة عيد

كلمات متجانسة ولحن طروب أتى عبر الأثير ليكون سمير لمطربها وأنيس له بعد الحادثة العاطفية العنيفة في شارع الحب والغرام كان هنالك إفراط في العاطفة للدرجة التي جعلت مطربنا الفخيم (تاج السر مكي عبدالحليم) أن تنفجر عربة شوقه وهيامه تفجيرًا لم يأمن السلامة معه، وقد رسم هذا الحادث رئيس جمهورية الحب إسحق الحلنقي رسمًا استخدم فيه لغة التعبير عن الندم والأسف على السير في هذا الطريق وقد قام المجني عليه بتمثيل هذا الحادث أمام محكمة الإبداع السوداني بلحن وصوت جعل المحكمة تصفق له كثيرًا، فخففت من آلامه وتباريحه وخرج معافى. هكذا كانت البداية الباتعة للفنان الجميل الدواخل التاج مكي عبدالحليم، وصلت هذه الكلمات واللحن الشجي إلى العاصمة وذاعت شهرته قبل أن تطأ أقدام التاج العاصمة قادمًا من كسلا. وحينما وصل وجد أغنيته تلك أصبحت مشاعة بين مطربي العاصمة كبيرهم وصغيرهم، وتغنى بها عدد منهم، كميرغني المأمون ورفيقه أحمد حسن جمعة. ولم يكتفيا بذلك بل جارا لحن الأغنية بكلمات كتبها الشاعر عبد الماجد زغبير:

خلوني أسكن بحري أمدر مدينتي بدورا
عشان أشوف غانياتا
وأسكن أعالي قصورا

كما تغنى بها محمد أحمد عوض وعلى إبراهيم اللحو وكمال ترباس . وعندما أقدم التاج على تسجيل الأغنية لدى شركة منصفون رفضت الشركة التسجيل بحجة أن الأغنية ليست له، مما أضطر التاج أن يأتي بإسحق الحلنقي ليشهد له بملكيته للأغنية واللحن ومن ثم التسجيل. وقد جاءت الفرصة التي أغتنمها التاج عندما أستضافه المذيع الجهير السيرة عمر عثمان في برنامجه (ساعة سمر) فتغنى التاج بذات الأغنية واستمع لها الشعب السوداني وأثبت حقه الأدبي وملكيته للأغنية.
أستطاع التاج مكي بموهبته في التلحين واختياره الجيد للكلمات أن يتغلغل في وجدان المستمع ويستقبل أعماله بكل حبور وسرور وقد بدأت موهبته بتغني للفنانين الذين سبقوه أمثال الكابلي فغنى معظم أغنياته الفصيحة فأبدع وغنى لوردي فأمتع وغنى لمحمد الأمين فكان أروع، فبدأت مسيرته مع كتابة الأغنية وتلحينها بأغنية قليلة الكلمات وضع لها لحن على إيقاع التم تم:

الدنيا طولا سنين وراها مشتاقين
حبيبي قول آمين نعيش نحنا اتنين
برانا برانا برانا
أصبر خليك يا حبيب وأفضل معاي قريب
ده الماضي إسمو الكان وإنت لي حبيب
برانا برانا برانا

أشتهرت هذه الأغنية عند العندليب الأسمر زيدان إبراهيم ولعل الكثيرين لا يعلمون بأن التاج مكي هو المالك الأصلي لهذه الأغنية كلمات ولحنًا. والتاج مكي يمتلك موهبة كتابة الشعر وبدأ في كتابة أغنياته ولكنه توقف عندما داعبه رفيق دربه إسحق الحلنقي بعبارة (إنت بتلحن وتغني وتكتب الشعر خليت لي شنو معاك؟). وفعلًا شكل معه ثنائية كبيرة فمنحه أكثر من ثلاثين أغنية بعضها مسجل تسجيلًا رسميًا وبعضها تغنى به في بعض البرامج .
ومن أشهر هذه الأغنيات على سبيل المثال: (سيد الكل وحبيت عشانك كسلا والشمس والعنبة وفايت مروح وين ليلة الميلاد (روح بابا) أهل المحبة وشالو القطار وسامحتك وإسم الله عليك). وكل هذه الأغنيات من ألحان التاج مكي عدا أغنية روح بابا من ألحان ناجي القدسي.
لم يتوقف التاج مكي عند محطة الحلنقي فإنتقل إلى محطات أخرى. محطة مهمة في حياة التاج وهي محطة الشاعر مرتضى عبد الرحيم صباحي والد الفنان معتز صباحي، فمنحه عدد من الأغنيات وأشهرها صبرنا كتير على الأشواق (لحن صلاح محمد الحسن) وقد تغنى بها كثيرًا عبد العزيز المبارك وأغنية (تائه في دروب سفرك) ولكن تعتبر أغنيته خلاص مفارق كسلا من أجمل أغنياته ومن ألحان ناجي القدسي. وقد أستوحى هذا اللحن من ألحان حسين حمزة والتي تقول بعض كلماتها :

خلاص مفارق كسلا
مفارق أرض التاكا
سايبك وحيد يا قلبي شايل عذاب ذكراكا
ما بنسى فيك يا كسلا
أيام قضيتا سعيد
أنا لي فيك حبيب كيفن أسيبو وحيد
مهما الزمن بي طال
أنا لو رحلت بعيد
باكر بجيبني الشوق ويسوقني ليك الريد
حليلك إنت معايا تتهادى جنب القاش
لما الخصل بداعب نفحت عبير وشواش
أهيم معاك في نشوة
وأغمرك حنان جياش
زي وردة فايحة عبيرا أسرت جناح لفراش

حقا كان لحنا معبرًا عن كلمات في قمة الروعة. وأشير إلى أن الشاعر مرتضى عبد الرحيم صباحي لديه عدد من الأغنيات لفنانين كأغنية عذاب للفنان عبد الرحمن عبدالله وأغنية هانت الأيام عليك لزيدان إبراهيم . كذلك تعامل التاج مع عدد من الشعراء منهم كامل عبدالماجد (بعد المسافة والكريسماس) وعبدالرحمن مكاوي صاحب الحكاوي عند حمد الريح فغنى له التاج (التينة وشفت عيون ونحن سوينا العلينا والكوستاوي). كما غني للشاعر عزالدين هلالي وتاج السر أبو العائلة ومحمد عبدالله برقاوي وأبو قرون عبدالله أبو قرون وجلال الدين حسن حمدون وعبداللطيف شريف، وأكثر من 98% من أغنياته قام بتلحينها التاج بذات نفسه وأشترك معه في تكملة هذه النسبة إلى المئوية عدد قليل من الملحنين منهم عبد اللطيف خضر وناجي القدسي وصلاح محمد الحسن.
ويجب أن نشير إلى أن التاج مكي إسمه تاج السر مكي عبدالحليم، وقد أختصر له هذا الإسم ليكون إسمًا فنيًا (التاج) ذلك الإعلامي الضخم محمد خوجلي صالحين حينما إستمع إليه في واحدة من مسارح ودمدني وأقتنع بموهبته، وبل دعاه للحضور إلى الإذاعة ورتب له أول لقاء إذاعي مع المذيع حمدي بدرالدين.
ورغم ارتباط التاج مكي بكسلا إلا أن ميلاده في كوستي عام ١٩٥٣ وتمتد جذوره إلى الشمال الحبيب (تنقسي الجزيرة). وعلى صعيد العمل إلتحق التاج مكي بمعهد البريد والبرق وتتلمذ في المعهد على يد الشاعر مصطفى سند وتخرج منه ولكنه لم يستمر كثيرًا في العمل. كما إلتحق بمعهد الموسيقى والمسرح في عام ١٩٧٣ وتخرج منه وهو بارع في إستيعاب فن الموسيقى فإنعكس ذلك في تطوير فنه وموسيقاه. هاجر التاج مكي إلى الإمارات مبكرًا منذ عام ١٩٧٨ ومازال متواجدًا بها. ورغمًا عن ذلك لم ينقطع عن نشاطه الفني ولحن عشرات الأغنيات ورغم هذه الغربة الطويلة ولكنه أودع في وجدان الشعب السوداني أجمل الكلمات وأعذب الألحان فقامت مقامه، ومازال الوجدان السوداني يحفظ جميل أغنياته في كل نبضة من نبضاته. ربنا يمتعه بالصحة والعافية وله عاطر التحية ونقول له صبرنا كتير على الأشواق فمتى يبتل هذا الشوق بالعودة إلى الوطن؟.