الخرطوم .. (كلما أبصرتُ ربعًا خاليًا .. فاضت دموعي)

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
الخرطوم .. (كلما أبصرتُ ربعًا خاليًا .. فاضت دموعي)
الصحافة السودانية، والصحفيون السودانيون، فوّتوا على أنفسهم فرصًا ثمينة في توثيق الأحداث والشخصيات، على عكس معظم صحافة العالم العربي، والعالم الأوروبي، والقارة الأمريكية، التي دأبت على إنتاج الكتب الصحفية حول الأحداث الكبرى والشخصيات المؤثرة في التاريخ السياسي والعسكري.
وفي غمرة “الآنيّ” واليومي، كثيرًا ما ننسى هذه الشخصيات العلامات، التي كان الوطن والشعب في حاجة ماسّة إلى ذكرياتها، ومذكراتها، ونصائحها، ومرافعاتها في النقد الذاتي، عنها وفي حضرتها.
وللحقيقة، ما كنت أظن أن الفريق المهندس إبراهيم عبود، “جبل الحديد الجانا بالرأي المفيد”، كما تغنّى له الناس في 17 نوفمبر 1958، هو ذات الرجل الذي هتفت ضده الجماهير في أكتوبر حتى أسقطته، ثم تدافعت حوله في سوق الخضار بالخرطوم، وهي تهتف بحزنٍ، وقد حملت سيارته الصغيرة على أكتافها: “ضيّعناك… وضِعنا معاك!”
كان ذلك أول ردٍّ شعبي على سوق الكلام الحزبي الذي لم يُغنِ ولم يُثمن من جوع، بل كان سببًا في كل الانهيارات اللاحقة.
نعم، ما كنت أظن أن هذا الرجل الكبير قد رحل في 8 سبتمبر 1983، حتى أخبرني بذلك وحكى لي الأخ الفنان محمد ميرغني، صاحب الصوت الطروب، وإلياذة السر دوليب المتداولة: “أنا والأشواق في بعدك بقينا أكتر من قرايب.”
قال لي: دُعيتُ مع بعض الأصدقاء إلى مناسبة عائلية بالعمارات، وقد حملتُ عودي من بحري لأغني في هذه الجلسة، وأظنها كانت خطوبة لابنة هذا الصديق. ولأنني لم أعاود زيارة بيتهم العامر بالحفاوة والكرم منذ زمن، فقد أخطأت العنوان.
طرقت باب بيتٍ زاهد البنيان، بلون ناصِل، مُعفّر بتراب الأمطار، ويبدو أن الطلاء قد فارقه منذ أمد بعيد. فتح الباب رجل بسُمرة عميقة، قصير، يلبس “عراقي ساكوبيس”، وكان حافي الرأس، وقد بدت عليه الشيخوخة.
سألته عن بيت عائلة فلان، فخرج من الباب المؤارَب، ووقف في الشارع وأشار بيده إلى البيت المقصود. لم أنصرف، فقد فاجأتني خاطرة صادقة بأن هذا الوجه ليس غريبًا عن ذاكرتي، فقلت له:
– عندي إحساس، يا عم، إنّي أعرفك… هذا الوجه ليس غريبًا عليّ!
فابتسم وقال:
– أنا يا إبني الفريق إبراهيم عبود.
سلمت عليه، واحتضنته لدقائق، أحسّ فيها بالحفاوة والتقدير، فقال لي:
– من أنت يا إبني؟
فقلت له هامسًا:
– أنا محمد ميرغني.
وكان العود في يدي بمثابة بطاقة تعريف إضافية.
فقال لي بدهشة:
– إنت محمد ميرغني الغنّاي؟!
قلت له ضاحكًا:
– أنا محمد ميرغني الفنان.
فألحّ أن يُكرمني قبل أن أذهب إلى أصدقائي. أجلسني في فناء المنزل، وكانت له حديقة صغيرة مزهرة، ودخل بنفسه وقدم لي كوبًا من الليمون الرايق، شرابًا ما زال مذاقه في لساني.
سألني عن الأغنيات التي أؤديها، وطلب أن أغني له إحدى أغنيات الحقيبة. فقلت في نفسي: سأغني له أغنية قد تُقلقه، خاصة وأن العسكريين السودانيين لهم ولع قديم بالشعر والغناء.
وزنتُ العود، خوفًا من نقده، وغنيت له: “أرجوك يا نسيم” لعتيق.
سرح ببصره بعيدًا، يتأمل الكلمات بصمتٍ فصيح، حتى ظننتُ أنه سيُبلل صدره بدمعٍ دفّاق، متذكرًا أيام الصبا والعزّ والحاكمية. شكرني على الأداء، وقال لي بلطف:
– بنطلق سراحك عشان ما تتأخر عن أصحابك.
ضحكت كثيرًا، وعلّقت:
– لسه بتطلقوا سراحنا يا سعادتو؟
ودّعته، وفي الخاطر ألف سؤال وسؤال. فنحن جيلٌ تمرغ في العزّ النوفمبري، والحلم الأكتوبري. وعزمت أن أزوره مرة أخرى، وأكمل “القعدة” بالليمون اللذيذ، لكن الأيام والليالي تسرقنا بمشاغلها، فتضيع منا كل الأمنيات الطيبة.
حتى فوجئت ذات يوم، وأنا أُطالع إحدى الصحف، بخبر رحيل هذا الرجل العظيم، المتواضع، المثير للجدل.
نعم… تمضي الأيام بمشاغلها، يا ميرغني. وقد رحل عبود، وارتحل عتيق، والسر دوليب، وارتحلتَ أنت… ارتحلت الأشواق معك، والنسيم… وارتحلت الخرطوم.
الخرطوم التي ما زالت تنتظر اللافتة التي يخطّها أبناؤها بحبر الدمع والعبرات، وقماشة اللوعة، وعبارة: “كلما أبصرتُ ربعًا خاليًا… فاضت دموعي”.