من ذاكرة البرامج الإذاعية .. عمر الجزلي .. أغنياتي وذكرياتي

من ذاكرة البرامج الإذاعية

عمر الجزلي .. أغنياتي وذكرياتي

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ

تنطلق موسيقا الشعار تحبس الأنفاس حينها في انتظار المتلازمة الإبتدائية له، فتأتي مقاطع من أغنيات في الذاكرة (هيجتني الذكرى) للفنان إبراهيم عوض، و(عازف الأوتار) للتاج مصطفى، وأخيراً (أنا والنجم والمساء) للملك عثمان حسين. ويبدأ الفن الخالد بأصوات الفنانين من عظام ورواد النهضة الفنية في التدفق يصاحبه صوت معد ومقدم البرنامج الأستاذ عمر الجزلي بقراءاته التي تتراوح ما بين النثر العاطفي ومأثور الأقوال التي قيلت في الخاطر المنهمر، تأملاً للحياة وجمالها وإشراقاتها. ومن ذلك ما كان يوماً أحد المكتوبات حين تكون الكتابة عن لواعج الشجن، والآهات المختلطة باحتراق الصبابة والهوى.
نجح الأستاذ عمر الجزلي في التوثيق عبر هذا البرنامج في جعل الغناء يُحس في الدواخل من خلال السرديات الحميمة لتلك الأغاني بأفواه الرواد دون أن تعرج نحو أمر آخر. فالحديث للغناء فقط ولا شيء غيره. من خلال ذلك الكم استمع المستمعون في هدأة تلك الليالي الخالدات في زمن بث البرنامج إلى مؤانسات كانت تحملهم نحو سماوات الجمال والإبداع.
وسارت أحاديث مقدم البرنامج وضيوفه من الفنانين بصورة أريحية مما ولَّد إحساسًا لدى المستمعين بأن البرنامج ما هو إلا مؤانسة بين إذاعي مبدع وفنان من شاكلة المتفردين غناءً.
كنموذج لذلك ما دار بين الجزلي والمرحوم التاج مصطفى في إحدى حلقات البرنامج إذ سأله الجزلي قائلاً: يقولون عنك إنك شلال ألحان وقد قمت بالتلحين لعدد من المطربين؟ فرد المرحوم التاج مصطفى قائلاً: ليه أصلي أنا كرومة؟!.. (ومن المعروف عن كرومة قدرته الأسطورية على التلحين) وحينها ضجّ الاثنان ضحكاً. وكذلك استرسال الضيف في سرد الكيفية التي دخل بها عالم الفن وقصص عثوره على أولئك الشعراء الذين تعامل معهم.. وها هنا نموذج للفنان صلاح مصطفى الذي قال إنه سليل أسرة تمجِّد العمل وتدين بالولاء للعالم الصوفي فكان متردداً في دخول عالم الغناء.
وها هنا يمسك المبدع الجزلي بجزئيات الحديث من خلال قراءاته واستذكاره لكل صغيرة وكبيرة حول ما يحيط بضيفه ويقاطعه قائلاً: لكن رحلتك لود مدني في 1957م جعلتك تجيد العزف على العود.
لينهمر سيل ذكريات الفنان صلاح مصطفى حول حياته الفنية.. وأثناء سرد الضيف لحياته وما أحاط بها من أحداث فنية يتم بث أغنية له الشيء الذي جعل تلك الأغاني تتم استعادتها وإحياء جذوتها من جديد. ساعد هذا البرنامج في رحلة تألقه المثيرة مساحة البث الزمني له مما مكنهما الاثنين الجزلي وضيفه أو قل ضيوفه من السرد المريح دون وضع هاجس المساحة الزمنية تلك الآفة المسيطرة على الجميل من برامج الحوار الإذاعي والتلفزيوني. نجح هذا البرنامج رغم مرور عشرات السنين على بثه لسببين. الأول اختيار الجزلي لمفردات النثر المصاحب للموسيقا المنبعثة كخلفية كأشعار وقطع نثرية مع اختياراته الموفقة حين تكون الحلقة من غير ضيف داخل الإستديو. الثاني: تلقائية الحوار وتمدد مساحة البث المريحة لكليهما.
وأخيراً أستاذنا عمر الجزلي أبقاك الله ذخراً للفن والتوثيق والإبداع فأمثالك يستحقون التكريم والتبجيل لما قدمته للحياة السودانية كإعلامي من طراز المتفردين