السودان بين المهاجرية والمتاجرية والمكاجرية

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
السودان بين المهاجرية والمتاجرية والمكاجرية
منذ استقلال السودان عام 56 تتنازعه ثلاث فئات، أو قل ثلاثة مافيات ـ إن صح الجمع في حق مفردة مافيا.
1 ـ مافيا المهاجرية، وهم مجموعة من النخب الثائرة والغاضبة، عسكرياً أو أمنياً أو مدنياً، وهذه الفئة تتلفح دائماً بعباءة المظلومية، فتدعي أنها تريد أن تشيع العدالة في بلادها أو في إقليمها، أو في قبيلتها. وتبدأ حربها الضروس بأهلها الذين غالباً ما يصبحون وقوداً لهذه الحروبات الملعونة، وقادتها في حقيقة الأمر مجموعة من النخب الطامعة في الاستوزار والثروة والسيادة لا بالكفاءة، ولكن بالدم المهراق، والأمثلة (على قفا من يشيل).
2 ـ أما المافيا الثانية فهي مافيا المتاجرية، وهم الوزراء وزعماء الأحزاب أو القيادات المدنية الذين تسنموا وظائفهم العامة منذ الاستقلال، فأغلب هؤلاء إلا من رحمه الله وقعوا في غواية المال الحرام، ومصادقة التجار ورجال الأعمال والشركات الوطنية والأجنبية، فالمصالح الشريرة تزرع في قلب أي واحد منهم تاجراً صغيراً في البداية، ثم تتعملق أحلامه فيصبح شريكاً في الشركات، أو وكيلاً لها، أو مستثمراً بالباطن بنفسه، أو بأبنه أو بأحد أقاربه، وهؤلاء غالباً ما يصيبهم الطمع الشيطاني، فحتى لو نالوا وادياً من الذهب طمعوا في ثانٍ وثالث وهذه صنف من الأعين (لا يملأه حتى التراب).
3 ـ أما الفئة الثالثة فهي مافيا المكاجرية، وهؤلاء مصابون بشح النفس طمعاً ورغبة واستجلاباً زائفاً للشهرة، فحيث ما اتحدت الجماعة في توافق ما سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، إلا رفعوا أيديهم وأصواتهم للمعارضة، وجعلوا للخلاف أحزاب ومؤسسات وتظاهرات أودت بكل المحاولات الوطنية في رأب الصدع وجمع الصف. وتحضرني هنا حكاية لطيفة عن هؤلاء المكاجرية، كنا منذ أيام الطلب الأولى نتشرف بحضور ندوة الأصالة للأستاذ فراج الطيب الشاعر واللغوي والمسرحي والإعلامي الشهير، فقد كان بيته المطل على النيل ملتقى للأدباء والشعراء والمفكرين، وقد كان منزلاً ندياً بالكرم والاحترام والخدمات، التي تبدأ منذ الثامنة صباحاً وتنتهي في منتصف الليل بوجباتها ومشروباتها الساخنة والباردة، وتظل (بت النّحاس) تخدم العشرات كل يوم جمعة بفرحٍ واستبشارٍ ومحيا لا تغيب عنه الإبتسامة الراضية ولا الترحاب، ويظل أبناء الأستاذ الطيب ورشاد ومحمد وعز الدين والبنات (إستاند باي)، منذ فجر الجمعة إلى آخر الليل، وقد عرفنا هذا الملتقى الفياض بالأدب والعلم والفتوى بالعشرات من كبار أدباء وشعراء ومفكري هذه البلاد، وقد أفادنا الجدل العلمي الرصين فيه، ما لم نستفده في الجامعات.
وأرجو أن لا يكون هذا الاستطراد وهذه الجملة الاعتراضية قد أنستني حكاية ظرفاء المكاجرية في مجلس الندوة، كان صاحبنا شاعراً زاهد الحجم والملبس، لكنه صاحب شاعرية وأدب وكانت مشكلته الأساسية أنه بعد تناول وجبة الغداء يروح في تعسيلة بشخيرها في الندوة غير مبالياً لا بالصغار ولا بالكبار ولا بالموضوع، وفجأة يستيقظ من نومته العميقة ويصيح هاتفاً في غضب: (إن من سوءات هذه الندوة لا تحترم الرأي الآخر ولا تتيح الحريات للجميع ليناقشوا المواضيع بعلمية دون قمعٍ أو فرض رؤية محددة مثل التي يريدها فراج الطيب ويرغب فيها عبدالله الشيخ البشير). فيخاطبه الأستاذ فراج الطيب بلطفه المعهود قائلاً: (خلاص يا أستاذنا .. قول رأيك)، ولدهشة الجميع يرد الرجل الذي كان يسميه الأستاذ خالد أبو الروس (نائم ديمة) تخرج كلماته في برودة ودهشة، وقد نال منه تعليق الأستاذ فراج وجعاً مباغتاً فتخرج الكلمات متعثرة وسط ترقب الجميع: أنتو كنتو بتقولوا في شنو؟ فيضج الجمع بضحكات مجلجلة وفي أقل من دقائق يمتص الرجل المكاجري الصدمة ويلوذ كعادته في نوم عميق.
وفي مثل هذا المثال قس في الراهن السياسي والعسكري والاقتصادي والمدني، وللحديث بقية وليس في الجُبة إلا أمدرمان.