الكرسي ما بين عقيل وكامل والكارب

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
الكرسي ما بين عقيل وكامل والكارب
كانت الخرطوم في منتصف الستينات صغيرة وأنيقة ومتصالحة مع نفسها وسكانها المدنيين أخلاقاً وسلوكاً وكانت شوارعها نظيفة وحدائقها مزهرة (أيام عز الميري) ومملكة الأفندية. كان هنالك مقهى شهير في أحدى حدائق الخرطوم بظلالها وعبيرها وخدماتها الممتازة وكان يدير المقهى أحد أبناء الشمال بهمة ونشاط وإنضباط وتجويد، وقد أشتهر عصير الليمون المضمخ بالنعناع والشاي والقهوة (المظبوطة) وشاي اللبن (المقنن) مع الزلابية بالحجم المفاض، كانت الحديقة والمقهى إتكاءة وثيرة وملتقى مرحب بالأدباء والشعراء والمثقفين والساسة وكانت هنالك منضدة قصية محجوزة دائماً للمحجوب وصديقه دكتور عقيل أحمد عقيل وتلاميذهم أحمد سليمان المحامي ودفع الله الحاج يوسف المحامي والتجاني الكارب المحامي وأخرون. وفي تلك الأيام كان النادي السياسي بالخرطوم بأحزابه وتياراته وقواه الفكرية وإتحاداته ونقاباته يبحثون عن رئيس وزراء مستقل ومقبول من كل القوى الحية ليتولى الرئاسة في الفترة الإنتقالية قبل أن يقع الأختيار على إبن الدويم المثقف والمعلم والإداري سر الختم الخليفة. إلتفت المحجوب مداعباً صديقه عقيل (سمعنا يا دكتور أن الأغلبية المؤثرة كادت أن تتفق عليك رئيساً للوزراء للفترة الإنتقالية. فرد عقيل ضاحكاً من غير تواضع يا محجوب والله أني أستحقها لكني لا أطلبها إمتثالاً لمخاطبة المصطفى صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: (إنّا لا نولي أمرنا هذا من طلبه). وفوق ذلك يا محجوب إن أردتها فإنها لن تصلني لأن طلاب الكرسي العروسة كثر). وقبل أن يواصل مرافعته أطل الأرباب صاحب المقهى وعرابه وقد حمل بنفسه الطلبات لهؤلاء الكبار فداعبه دكتور عقيل، وقد أشتهر الرجل بالظرف والتعليقات الماكرة غير الجارحة سمعنا يا أرباب أنك ستصبح رئيساً للوزراء القادم وكان الرجل رغم أميته سفيانياً ومعتداً بنفسه وبأصله فقال بجرأة وصوت هتافي بليغ إنتبهت له كل الأذان: (أنا علي الطلاق يا دكتور أكبر من الرئاسة والرئاسة أصغر مني لكن لأهل العشم إحترام وإخلاص وأنا الزعامة راجياني ساس وراس من أبوي ومن جدي العباس). وأنشد قائلًا:
نحن بنضرب الفارغة بنجبيها ملانة
ونحن جدودنا جابوا العزة بالجبخانة
وغادر منضدة الكبار وقد ملأ صدره بالزهو والإنتشاء فإلتفت دكتور عقيل وقال للمحجوب مبتسماً: (أنا ما قلت ليك يا محجوب إنها ما بتصلني). وضج الجميع في فاصل من الضحك الممراح وقد إرتاحوا لتبرير دكتور عقيل الوسيم. طافت بخاطري هذه الحكاية وقد ضجت الأسافير بالأمس ومازالت تضج قادحة ومادحة بعد تعيين الدكتور كامل الطيب إدريس رئيساً للوزراء، لكنها هذه المرة يا عقيل يطل القرار والعبارة الأكثر تواضعاً ومقبولية نسبياً وليس إطلاقاً (أن الرئاسة تستحق الرجل ويستحقها بجدلية الأمر الواقع وقد وصلته رغم أنف الحاقدين والشامتين والمشفقين). نالها الدكتور بعد أن غادر الأرباب المقهى وجفت الحديقة وأصبحت المناضد محطمة ومهجورة وغاب المحجوب وعقيل وسر الختم وأحمد سليمان ودفع الله في تراب شرفي والبكري وحمد النيل وبقي التجاني الكارب كالسيف وحده يضمد جراح الذكريات بالكثير من الأسى والتأوهات والكثير من الأنس والنشيد والقرآن وهو يستقر قلقاً في أحدى المنافي البعيدة ومدني والخرطوم تترأى في أعينه الدامعة المكتسية بأبيات العاشق القديم وهو يناجي لياليه وأيامه الخوالي:
ليالي بعد الظاعنين شكول طوال وليل العاشقين طويل