إبراهيم عوض .. بوح شفيف في ذكرى (الذري)

(19) عامًا على الرحيل المر

إبراهيم عوض .. بوح شفيف في ذكرى (الذري)

بقلم: أمير أحمد حمد

الفنان القامة صاحب الذكرى الجميلة التي جمل بها دنيانا وترك لنا ألم الفراق. وعندما شدا بـ (لو داير تسيبنا جرب إنت تسيبنا) ما كنا نعلم أنه المجرب قبلنا وكم وكم ناشد الزمن بأن يتوقف شوية ولكن لم يستجب الزمن فرددنا معه مين قساك ومين قسا قلبك وبعدها ازددنا قناعة بأن الدنيا منى وأحلام فهيجتنا الذكرى فأصبحت تذكار عزيز شلناه أسى وهموم خاصة مع الصباح الزاكي العبير. هاهي ذكراك التاسعة عشرة قد سرت كما سرى كوبك الساري فينا ببديع الأغنيات فراقك نارو حراقة اكتوى بها عشاقك ومحبيك وتزداد لهيبًا كلما عانقت آذانهم صوتك الرخيم الوسيم كوسامتك، مثلما كنت جمالًا في حياتنا نسأل الله أن نلقاك في (الجنة) مع الحبيب المصطفى ويجعل البركة في ذريتك وأهلك وجيرانك.

 

+ الغرفة العجيبة:

عندما كنت صغيرًا وأنا أحبو نحو المدرسة أتلمس خطى التعليم بالمدرسة الإبتدائية الكائنة بمراتع الصبا حي العرب الإبتدائية، لم أكن أدري أن قدري للعشق الذري قد بدأ معي بذات الطريق الذي سعيت فيه لإنارة قلبي وعقلي. وأنا في الطريق تسربت إلى مسامعي موسيقى مبعثها تلك الغرفة العحيبة التي اتخذت شكل القطية مظهرًا لها، كبيوت السكة حديد اتخذت موقعها في الركن الشمالي الشرقي لمدرسة الشنقيطي المتوسطة التي شيدها ذلك المحسن الذي حياه الغمام (محمد صالح الشنقيطي). هذه الغرفة لها نافذتان، نافذة تطل شرقًا على طاحونة بندر الشهيرة بالحي لخدمة الجمهور كما كان مدون على لافتتها ونافذة أخرى مفتوحة نحو الشمال ومطله على دكان عمنا خضر ود الشفة الترزي الستاتي الذي إتخذته نساء الحي مجملًا ومفصلًا لأزياءهن بالترتر والحرير. إتخذت مكانًا مابين الطاحونة ودكان الترزي وظللت أستمع إلى تلك الموسيقى الرائعة، وفجأة طل من خلف الموسيقى صوت كرنين الجرس وصفير البلبل، فإرتخت مسامعي وإتجهت نحو النافذة التي عرفت فيما بعد أنها مسكن لخفير المدرسة، حتى استمتع بالصوت المدهش (اييييييي وين وين متين يا روحي نتلاقا فراقك نارو حراقة). لم أكن أدري معنى الفراق والنار الحراقة ولكن شدني الصوت والأداء الرائع الذي كاد يعرضني للضرب والعقاب للتأخر عن المدرسة من قبل أستاذ صلاح يوسف الصارم، ولصرامته نعته الطلاب بإسم (خلعة) لهلع الطلاب منه. من هنا بدأت مسيرة العشق الذري فكانت أغنية متين يا روحي نتلاقا فراقك نارو حراقة التي ألفها ولحنها إبن الحي الجنرال الطاهر إبراهيم الذي جعل إبداعه ونبوغه الفني حصريًا على إبراهيم عوض الذي لم يخيب ظنه في توصيل إبداعه إلى وجدان الشعب السوداني.

 

+ زهرات عبد الرحمن الريح:

تتبعت مسيرته واقتنيت مجموعة من شرائط الكاسيت واستمعت إليه بحب وشغف. الذري بدأت مسيرته الفنية وهو واثق بأنه فنان حيث كان بروف الأغنية السودانية عبدالرحمن الريح يسترق السمع إليه وهو يغني مع خاله علي إبراهيم في بهو صالون ود الريح، لفت سمعه روعة الصوت وقوة النفس وهو يؤدي بصوته الجميل. وكم كانت دهشة ود الريح حينما غنى أمامه أغنية (أذاني) فإقتنع بأن هذا الشاب يرجى منه الكثير، وقد كان. منحه ثلاث زهرات تنسم عبيرها المستمع السوداني فكانت بداية الإنطلاق نحو آفاق المغني السوداني فحين صدح بـ (هيجتني الذكرى) تأليفًا وتلحينًا لود الريح فأحيت ذكريات كل من استمع إليها، وأردفها بعلمتني الحب وأختفت عني أين ألقاها ملهمة فني والزهرة الثالثة أسرار العيون. ثم توالت أغنياته للذري فكانت دائمًا مساهر ليل وكوكبي الساري وألم الفراق والدنيا منى وأحلام. فكم كانت هذه الأغنيات مؤثرة على المستمع السوداني فأطربت حتى المايك الذي يغني عليه الذري، فترنح من قوة الطرب، فحمله الذري بين يديه ويتجول به حول جنبات المسرح. وبهذا سجل في دفتر الغناء السوداني أول من أخرج المايك من سبيبته وحمله بين يديه.

+ الذري والطاهر إبراهيم:

ومن ثم كان التعاون الكبير أيضًا بين الذري والشاعر الملحن الطاهر إبراهيم الذي منحه كثير من الأغنيات الخفيفة الراقصة فكانت إضافة حقيقية لمسيرة الذري، فحلق بها في فضاء الغناء الخفيف مما حدا ببعض مطربي ذلك الزمان أن يحلقوا معه مقلدين أسلوبه في الغناء رغم أنهم سبقوه في مضمار الفن، كالفنان عثمان حسين. فكانت أغنياته الخفيفة التي كتبها له السر دوليب مثل مالي والهوى وما بصدقكم وأخواتها النواضر سارت على منهج الذري في التطريب الراقص، فحقيقة كان الذري ذكيًا في تعامله مع الطاهر إبراهيم، فكانت بحثًا جديدًا للذري فمنحه عدد من الأغنيات أهمها متين ياروحي نتلاقى وملاذ أفكارنا والذكرى الجميلة وليه تظلمني، كما منحه الأغنية الشهيرة حبيبي جنني وغير حالي، فكم جننت الشعب السوداني وغيرت حاله في اختياره الجيد للإستماع. وكانت كل كلمات الطاهر من ألحانه كأنه يكتب قصائده بريشة العود لا بالقلم كسابقه ود الريح ولكن دب خلاف بسيط ضخمه الإعلام فتوقف التعامل برهة من الزمن بين الذري والطاهر وعادا مرة أخرى بملاذ أفكارنا الهيمانة.

+ يا زمن وقف شوية:

وخلال هذا الخلاف تسلل عبداللطيف خضر إلى حياة الذري الإبداعية وبدأت مسيرة من الإبداع بينه والذري، فكانت يتيمة الشاعر عوض أحمد خليفة عند الذري غاية الآمال كأول عمل يجمع بين الذري وود الحاوي، ثم كانت الثلاثية الخطيرة بين الذري وود الحاوي ملحن وإبراهيم الرشيد كشاعر كأنما ود الحاوي إحتكر إبراهيم الرشيد في أشعاره وحتى التي لم يتغن بها الذري لحنها ود الحاوي. ومن أهم أغنيات إبراهيم الرشيد للذري يا زمن وقف شوية ولو داير تسيبنا جرب وإنت سيبنا ووسيم الطلعة ووشاية وتحدي وغيرها وقد كانت كلها من ألحان ود الحاوي.

 

+ ثلاثية محجوب ومصير الدسوقي:

 

غنى الذري تقريبًا لعدد من كبار الشعراء، فغنى لسيف الدين الدسوقي أحب مكان والمرأى الجميل والمناديل. وتبقى المصير واحدة من العلامات البارزة لدى فن الذري وود الحاوي
فتنوعت فيها كوبليهات فاقت حد الروعة. كما كتب الذري في دفتر إبداعه ثلاثية الشاعر محجوب سراج الشاعر النبيل الذي خلت قصائده من الغزل المفضوح، فكانت كلماته نبيلة كنبله وصدقه، فكانت مين قساك وقاصدني ما مخليني وليه بتسأل عني تاني. وهذه الأغنيات الثلاث لها مكانة كبيرة لدى وجدان المستمع السوداني، وقد زينها بصوته بصولات موسيقية بآلة بشرية تناسقت مع بقية الآلات وهذا ما يميز صوت الذري.
وهذه الأغنيات جميعًا من ألحان السني الضوي، فكان الذري أول من غنى من ألحانه. ولا يفوتنا في هذا المقال أن نتطرق لواحدة من جميل أغنيات الذري وهي من كلمات الشاعر مصطفى عبد الرحيم وهي تذكار عزيز ومن شدة جمال كلماتها ضن الذري أن يمنحها لملحنيه، فكانت من أروع ألحان الذري بشهادة ملحنه الكبير ود الحاوي.

+ مدارس شعرية متنوعة:

تنوعت المدارس الشعرية عند الذري فغنى شهر العسل للشاعر حسين عثمان منصور ودنيا غريبة للحلنقي وقلبك حجر لعثمان خالد وما بقدر أبوح النعمان على الله وبحنيني للشاعر حسين جقود وزهرة نادية مصطفى عبدالعزيز والاستفتاء للطيب عربي وأغنية ثورية للدكتور الزين عباس عمارة والحجاب للسر دوليب ولشعراء آخرين. هذا ما استحضرته الذاكرة. ولم يكن الذري يميل للتلحين، فترك صوته للملحنين، وقد كان موفقًا في اختيارهم وقد بهر ملحنيه بجودة الأداء، فأضاف عليها من حسه الفني، فكان الإبداع و الإمتاع والإشباع في قمته. هذا قليل عن سيرة الذري ويعحز القلم عن حصر فنه وما أتى به من مظاهر اجتماعية، فأصبحت عنوانًا للأناقة والتحضر. رحم الله الأستاذ إبراهيم عوض وأسكنه فسيح جناته وجعل البركة في ذريته.