ما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه البارحة بالنائحة!!

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
ما أشبه الليلة بالبارحة وما أشبه البارحة بالنائحة!!
٭هنالك حزمة من المواقف الكبرى بأيامها وأحداثها شكّلت منعطفات عميقة في تاريخ البشرية .. أجتزئ منها ما أحاط منها بتاريخ المسلمين..
ولعل أخطرها شأناً (الفتنة الكبري) وما حدث بين الصحابة من خلاف واختلاف ما بين الدنيا والدين وما بين الحكمة والحاكمية.
٭ وجاءت بعدها أحداث قيام دولة بني أميّة وسقوطها المزلزل وقيام دولة العباسيين وسقوطهم الأكثر زلزلة.
٭ وهناك قيام دولة الأندلس وملامستها للحضارة والعالمية وانهيارها أمام الأطماع وطمع القوى المتوثّبة المعادية الجديدة على ثغورها.
٭ وهنالك فتنة التتار واجتياح العالم الاسلامي وفرض الاستبداد والوثنيات وصناعة الهمجية.
٭ وهنالك الدويلات والأمصار التي أحالت الفكر والأرض إلى إقطاعيات أسرية حلمها في مأدبة طعام وغناء جارية ومديح متواضع لشاعر أو بالاحري ناظم رخيص.
٭ وهنالك قيام دولة العثمانيين أو ما اتفق على تسميته بالخلافة الإسلامية التركية التي أعلنت ارتفاع لواء الدين منفصلاً عن لواء اللغة.
٭ وكان لسقوطها المدوي أيضاً على أيدي أوربا الخارجة من لوثة التعنصر والاستنارة المادية والبارود المحسّن، أثره البالغ على الرقعة العربية والإسلامية التي صارت أسلاباً للاستعمار الجديد بعد اتفاقية سايكس بيكو وأخواتها التي أقرت التقسيم في الحدود والعلمانية في الأخلاق والقانون.
٭ ومنها جاءت قصة التنازل عن الإسلام الحاكم والسلطان المهيمن بما غذّاه الفكر الاستشراقي بأن تجربة تركيا الماثلة هي المطابقة المثلى لمن يبشّرون بالأوبة للأصول، وقد نجح التنصير فارتفعت أسهم الدولة الوطنية المدنية وأُبعد الدين تحت حجّة الشعار الأملس الكذوب : الدين للّه والوطن للجميع، فأقصيت الأكثرية بديكتاتورية أقلية النُّخب وتلاميذ المستعمر، وفُرضَت العلمانية وأخلاق الغرب ومؤسساته .. ومُنعت المؤسسات الإسلامية من التطور والمنافسة والإضافة، بل إنها قُمعت وتم تقبيحها وتمّ التسويق لاندثارها على كل المعابر والمنابر بحجة الظلامية والأرهاب.
٭ وجاءت قضية سلب فلسطين لصالح الصهاينة تحت وطأة قانون (عطاء من لا يملك لمن لا يستحق) وعبر تمكين النخب من عبيد الأستعمار ووكلائه أصبحت المؤامرة ماثلة وقابلة للتسويق بعد هذا الاستقلال الشكلي وحتى لا يحتاج الاستعمار الغليظ والرقيق لتبرير.
٭ ومابين يدَي هذه المُزلزلات بَرَزت مجموعة من النُّخب فيها الكثير من الأذكياء والمتعلمين والقادة والموهوبين والمبدئيين .. بعضهم وقف وقفة شجاعة وعلمية ومؤمنة لصالح عقيدة هذه الأمة وإنتمائها الإسلامي الراشد وبعضهم انساق وراء قصة الغرب حول فصل الدين عن الدولة في الحُكم مثل علي عبد الرازق ورفاعه الطهطاوي، ومنهم مَن انساق وراء قصة الانسلاخ الثقافي وسَلَّم بالتبعية الخالصة لأوربا مثل طه حسين ولطفي السيد وزايدَ عليهم سلامة موسى، وهناك معركة اجتماعية لا تقل خطورة قادها بجهالة وجاهلية قاسم أمين تحت ضلالة تحرير المرأة وانساق في طريقها بعض النساء المتغربات فيما يسمي بقضية الحجاب والسفور والحديث هنا ذو شجون، ولهم ولهن أتباع في الإعلام المشاهد في القنوات والسينما والمسموع في الإذاعات والمسرح والمنابر والمقروء في الصحف والمجلات والنشرات الدعائية المثقلة بالتزييف والأراجيف والجامعات والمؤسسات. ونخبة من أقلية النصارى العرب رأوا أن فرصتهم في أن يحكموا ويقودوا الأغلبية المسلمة تكمُن في تغليب العرق واللسان العربي على العقيدة والتوحيد، وهذا دور تصدى له ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وبعض هتّافة القوميين فكان النظام البعثي في بغداد وفي سوريا والنظام الناصري في مصر وليبيا والسودان بعد مايو 69، فكانت عافيته كماترون؛ شعوبٌ جائعة ونهضة مُفتراة وسجون أضخم من المصانع، ودماء أرخص من الماء وعمالة لا يغطيها كتان ولا صوف ولا قطن الدنيا بحالها، وفساد يُزكم الأنوف، وضحالة في معرفة الحياة والممات سارت بأخبارها وسيرتها الركبان.
٭والغريبة أن عموم هذه الإشكاليات المركزية والكلية تولّدت منها إشكالات أدنى في كل الأقطار العربية والإسلامية ولو عددناها لصارت أسفاراً ومعاجم تنوء بها المكتبات والعقول.
فالسودان المُبتلَى بالأرض والإثنيات والجوار وعدم اكتمال ثمرات الجغرافيا والتاريخ فيه، تظل تجربته التاريخية النوبية العريقة مروراً بدخول الإسلام وسنار قياماً وسقوطاً، وقبلها أحلاف العرب والأفارقة ودويلات القبيلة الوسيطة وفكرة التصوُّف ودخول الدولة التركية وأفولها وقيام المهدية والحقبة التورشينية واقتحام السودان بالاستعمار الحديث الثنائي وبروز حركات التحرير الوطني الداخلية والثورات والاستقلال وحرب الاستنزاف الطويلة في الجنوب مع التتابع لجهنمية البرلمان والبيان الأول .. كل هذا جعل كلَّ شيء مفتوحاً على آخره للتجريب؛ الدستور والحاكمية والسلطة والثورة والقانون الشريعة والشورى والقوة والمدنية والريف والعلماني والإسلامي والاعتدال والجنوح وطائفية الحزب وطلاقة البرنامج وحروب العصابات وطمع الشتات.. كل هذه التعقيدات أصبحت جدليات لا اتفاق حولها وأزمات بلا حلول ومازالت القضية المفيدة تبحث عن نقطة النهاية، ترى هل ينتبه أهل السودان لفكرة موحدة وبرنامج رصين يبدأ من الصفر بعض أن صارت الأنفس والمنازل أطلالاً فأن البداية الصفرية المتوثبة نحو الواحد الصحيح خير ألف مرة من المائة التي تتسارع بخفة وسرعة مهولة نحو القاع.