تاج السر عباس .. الشاعر الذي تسلل إلى وجدان الشعب السوداني (حبة حبة)

قدم ألطف اعتذار: (ﺃﻏﺎﻟﻂ ﻧﻔﺴﻲ ﻓﻲ إﺻﺮﺍﺭ ﻭﺃﻗﻮﻝ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﺎ ﺟﻴﺖ)
تاج السر عباس .. الشاعر الذي تسلل إلى وجدان الشعب السوداني (حبة حبة)
بقلم: أمير أحمد حمد
كان طالبًا بمدرسة أمدرمان الأهلية الوسطى الكائنة في الناصية الجنوبية لناصية السيد الزعيم إسماعيل الأزهري ولا يفصل بين الناصيتين سوى الأسفلت المؤدي إلى كبري شمبات تلك المدرسة ضمت مبانيها العديد من الشخصيات السودانية التي كان لها شأن كبير في الحياة السودانية بكل تفاصيلها. وفي ذات صباح رق وصفا والطلاب بين إنتباه وصفا أعتلى شاعرنا المسرح ليلقي على المسامع قصيدة بصوت واضح النبرات عذبة الكلمات تراخت إليه مسامع الزعيم إسماعيل الأزهري وهو بمنزله المجاور وأبدى إعجابه بهذا الصوت أيما إعجاب. ذلكم الشاعر الفخيم الوسيم تاج السر عباس.
ولعل هذه الحادثة ربما أعطته دفعة كبيرة وشعور كبير بأنه شاعر. حقيقة الاستاذ تاج السر عباس رجل ذو إحساس وشفافية عالية، يلقي عليك شعره باسما فتبتسم معه الكلمات ويضئ بريقها المسامع ويقيني أنه أفضل من يقرأ شعره، وكثير من الشعراء لا يحسنون قراءة شعرهم، ويتمتع بذاكرة يحسد عليها. كتب الأغنية ببساطة وعمق وعبارات منسجمة كأنما أهدى اللحن لملحنها، فما على الملحن إلا وضعها في مكانها المناسب بين أوتاره. وحينما يقرأ بيتا من قصائده تكون متشوقا للذي يليه. هكذا تاج السر عباس وهكذا كانت أغنياته التي انداحت بين حناجر شتى، فكان النجاح ديدنها وسارت بين الركبان تحدث عنه وعن شوقه وتلهفه على الحبيب وإيجاد المبررات في حالة تجني الحبيب ولو جاء على نفسه. ولعل من ألطف الاعتذارات التي وردت في أغنياته رائعته التي تغنى بها خليل اسماعيل أغنية الميعاد وقد جاء فيها:
ﻗﺒﺎﻝ ﻣﻴﻌﺎﺩﻧﺎ ﺑﺴﺎﻋﺘﻴﻦ ﺃﺑﻴﺘﻮ ﺃﻧﺎ ﻭﺃﺑﺎﻧﻲ ﺍﻟﺒﻴﺖ
ﺃﻏﺎﻟﻂ ﻧﻔﺴﻲ ﻓﻲ ﺃﺻﺮﺍﺭ ﻭﺃﻗﻮﻝ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﺎﺟﻴﺖ
ﻭﻃﺎﻟﺖ ﻭﻗﻔﺔ ﺍﻷﺷﻮﺍﻕ ﻣﻌﺎﻱ ﺟﻤﺐ ﺍﻟﻤﻜﺎﻥ ﺫﺍﺗﻮ
ﺃﻧﺎ ﻭﺭﻋﺸﺔ ﻇﻼﻝ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻭﻗﻠﺒﻲ ﺣﺰﻳﻨﺔ ﺩﻗﺎﺗﻮ
ﻭﻓﺎﺕ ﻣﻴﻌﺎﺩﻧﺎ ﻓﺎﺕ ﺭﻭﺡ ﻭﺷﺎﻝ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﺣﻜﺎﻳﺎﺗﻮ
ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﺴﺘﻨﻲ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﻌﺎﺩ ﻭﻟﻴﻚ ﺣﺒﻞ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﻣﺪﻳﺖ
ﻭﺃﻏﺎﻟﻂ ﻧﻔﺴﻲ ﻓﻲ ﺃﺻﺮﺍﺭ ﻭﺃﻗﻮﻝ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﺎﺟﻴﺖ
ﺗﺨﻴﻞ ﻛﻴﻒ ﻣﺸﺎﻋﺮﻱ ﺃﻧﺎ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﺼﻠﻮﺏ ﻋلى ﺍﻟﻤﻴﻌﺎﺩ
ﺃﻋﻮﺩ ﻛﻴﻔﻦ ﻣﻶﻥ ﻏﺮﺑﺔ ﻭﺃﺷﻴﻞ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻋﺬﺍﺏ ﻭﺳﻬﺎﺩ
ﻭﻳﺎﺭﻳﺘﻚ ﻣﺎ ﻭﻋﺪﺗﻴﻨﻰ ﻭﻳﺎﺭﻳﺘﻨﺎ ﻧﺤﻦ ﻛﻨﺎ ﺑﻌﺎﺩ
ﻭﺑﺮﺿﻲ ﺭﺟﻌﺖ ﻣﺘﺼﺒﺮ ﻣﻌﺎﻱ ﺧﻄﻮﺍﺗﻲ ﺭﺍﺟﻌﺔ ﺍﻟﺒﻴﺖ
ﻭﺃﻏﺎﻟﻂ ﻧﻔﺴﻲ ﻓﻲ ﺃﺻﺮﺍﺭ ﻭﺃﻗﻮﻝ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻧﺎ ﺍﻟﻤﺎﺟﻴﺖ
وقد وضع لها خليل اسماعيل لحنًا جميلًا استحسنه كمال ترباس وزاده ألقًا على ألق معتمدًا على آلاته الإيقاعية فقط. بالله عليكم تأملوا هذا النص وتأملوا الاعتذار الوسيم يغالط نفسه بإصرار يمكن هو الذي لم يأت. هذا هو حسن التعليل الذي يعنيه أهل البلاغة، وكم كانت فرحته وشعوره الجميل عندما سمع من خلال المذياع ثنائي النغم وهن يصدحن بواحدة من قصائده:
مازلت عني بعيد ماحركك احساس
مازلت أجمل زول اسمك أمير الناس
لسه في عمرك نور يادوب في عمرو ورود
يتشابو ليك الناس وتعيش عيوني شرود
فتحت لي الكون عمرت لي وجود
مازلت أجمل زول اسمك أمير الناس
ألقاك وانت بعيد ساعة الهجير غيمات
تنشر شعاع الريد وتعطر النسمات
تديني نظره عين تحملني للواحات
مازلت أجمل زول اسمك أمير الناس
وهي من ألحان الهرم النغمي بشير عباس وهي من أوائل أغنياته . وإزداد زهوا وفخرا بين مصدق وغير مصدق أن يتغنى له العطبراوي وهو مازال يافعا شافعا عندما وجد العطبراوي قصيدة صابر معاك منشورة بالجريدة:
صابر معاك صبرا طويل كاتم العلي
وأصلو العلي ما مرّ يوم بخيال بشر
لو قلتي قيس والله قيس بالنسبة لي
ما شاف عذاب لا ضاق ألم
لا قاسى مر
من كم سنة يا ستنا من كم سنة
عايش براي زي الغريب
وأيامي فيها الضنا
من كم سنة قلبي الحزين
زي اليتيم
لا شاف حنان لا ضاق هناء
من كم سنة ما قلتي لي
إلى نهاية الأغنية التي اتخذت مكانا عليا في برنامج ما يطلبه المستمعون، فكان الأداء واللحن في قمة الروعة والنص أروع والذي يصف حاله ويصف حال قيس دون حاله. ولاننسى جميلته ورائعته التي تغنى بها صاحب الصوت الشجي الأستاذ الطيب عبد الله:
تمد الإيد ونتسالم … كأنك مانسيتني زمان
ولا الزول القبيل خاصم
بعد فرقتنا بالسنوات .. نسيت أسباب خصامنا الطال
ونتقابل نمد الإيد .. وفي عينينا ألف سؤال
سنيني الفاتو من دونك
براي قضّيتا في أحزان
بشيل الليل عذاب مشتاق
بعادك سهد الأجفان
تخاصم كيف وتنسى الريد
وتنسى الإلفة والتحنان؟؟
غريبه الليلة نتقابل ونتعاتب بدون كلمات
وفوق إيدى تنوم إيديك وأحسّك في الفؤاد خفقات
وأشوفك تبكي ياحالم على الماضي وزمانو الفات
يا لها من كلمات ويالها من كلمات وصوت مشحون بالشجن. ولعل ما ذكر من اغنيات تمثل البداية لشاعرنا وكلهم كانوا نجوم تلألأت في سماء الفن السوداني ولكن تبقى مسيرته الكبيرة مع الفنان خوجلي عثمان، فشكلا ثنائية أنتجت ما يربو على الـ ١١ أغنية. وتقريبًا كل الأغنيات التي جمعت بينهم من ألحان خوجلي عثمان وبدأت بأغنية حبة حبة زيد غرورك والتي كادت أن تتغنى بها البلابل من تلحين بشير عباس ولكن آلت إلي خوجلي عثمان، ورفض بشير عباس التغني بلحنه مما حدا بتاج السر أن يحث خوجلي على التلحين لنفسه وقد كان وجاءت بعد ذلك مالو لو صافيتنا انت وصبح الهنا وكتير بتناسي ايديا واخواتها الباقيات الممتعات:
زيد غرورك ومرة زيد الريد حبة
وأمشي درب الحب وأبقى زينا زول محبة
أنحنا ريدك من ربينا زادنا الفينا وفينا شبه
مازمان وصوك علينا قالوا ليك خليك حنين
أنحنا ماحبانك إنت وأصلو حق الريدة بين
في سبيل ضحكة عيونك يبقى ظلم الدنيا هين
نحنا أصلنا ناس محبة زول نعزو وزول نريدو
والبفوت ريدتنا يمشي برضو نفرح بجديدو
من عمرنا أفراح حياتو في شقانا يلاقي عيدو
نحنا مادايرين نعاتبك انت مننا وانت لينا
انت لو غلطان معانا حقك انت يكون علينا
نحنا ناسك يامحبة ليك عمرنا الباقي فينا
الشاعر تاج السر عباس تغنت له عدد من الأصوات منهم إبراهيم حسين بنتلاقا وبنتلاقا والفنان عز الدين عبد الماجد بثلاث أغنيات منها اشتياق ألحان أحمد المبارك والورد البنفسج ألحان عبد اللطيف خضر والقليب ما عاد يحبك ألحان الفاتح صالح، ولكن للأسف لم يتم تسجيلها كما ذكر لي الأستاذ عز الدين عبد الماجد، كما غنى له حسين أبو عرب أغنية المهاجر من ألحان أحمد زاهر وأغاني أخرى، كما غنى له عبد التواب عبدالله وأم بلينا السنوسي. وقد تغنى له أيضا إبن البادية أغنية كبرنا على الهوى وعشان خاطر عيون بلدي. ولعل الأستاذ زيدان إبراهيم تغنى بآخر أغنياته بأغنية تدلل من لحن العازف التجاني التوم، كما تغنى له عبد الدافع عثمان وسيد خليفة والتجاني مختار وعبدالله الكردفاني ومحمود علي الحاج وصلاح براون وعاطف السماني ومحمود صداح.
وأشير إلى أن شاعرنا من مواليد حي أبوروف العريق. وقد عمل بالصحافة الفنية في عدة صحف سيارة. وقد كان للأستاذ تاج السر دور بارز في إتحاد شعراء الأغنية منذ أن كان برئاسة الأستاذ مبارك المغربي، ومن بعده الشاعر محمد يوسف موسى. وعندما انتقل محمد يوسف موسى للرفيق الأعلى أصبح القائم على شؤونه. ومازال شاعرنا مبتليًا بكتابة الشعر وما أحلى هذا الإبتلاء.