ثلاثية الأربعاء

ولألوان كلمة
حسين خوجلي
ثلاثية الأربعاء
* حكاية تصلح للتداول
حكى لي صراف في خلوة لتحفيظ القرآن شيخها رجل صالح وزاهد (وصباح خير) دخلت عليه يوماً امرأة عليها أطمار وتنبعث منها رائحة الفقر وتدفع أمامها ثلاثة من الأطفال وشكت للرجل الصالح باكية بأنها أرملة لم تجد ما تسد به رمق أيتامها ليومين كاملين.
ناداني الرجل الصالح وقال لي بصوت فيه خوف وارتعاش من سماع الشكوى: يا فلان كم جوال من الذرة بقي في مخزنك؟
فقلت له: جوالين لا غير.
فقال لي آمراً: خذ حماري إحمل الجوالين لهذه المرأة وأطفالها اليتامى، وكانت تسكن في قرية مجاورة للخلوة. وعندما رجعت من المشوار المبارك وجدت شاحنة ضخمة ذات سعة تقف أمام الخلوة وأنزلت كمية مقدرة من جوالات الذرة وذهب بها السائق إلى حاله، استلمت جوالات الذرة بالعدد.
قال لي الشيخ مبتسمًا في رضا: هل ذهبت بالجوالين مع المرأة؟ فقلت لا، بل جوال واحد فقد أشفقت على الصبيان من الحفظة ألا يجدوا قوت الغد.
فقال لي: وكم عدد الجوالات التي أنزلها السائق؟
فقلت: خمسون جوالًا.
فرد علي: لو أنك أنزلت في بيت الأرملة الجوالين لأنزل السائق المائة، وليس الخمسين وفعلًا فقد ذهبت السيارة بعيداً وبها نصف الحمولة.
عزيزي القارئ لا تدع الشيطان يقلل النيات الطيبة ولا مدى الخير، وجربوا التجارة مع الله وأعلموا يقينًا أنه ما نقص مالٌ من صدقة، وهذه الأيام أيام صدقات في بلادٍ أصبح للفقر والعوذ والمسغبة فيها سلطان.
* مسابقة شعرية ما بين الاستهلاكية والاستعباطية
للشاعر الساخر مريد البرغوثي قصيدة حرة بعنوان (مقومات) يلخص فيها بذكاء إهدار المال العربي في الاستهلاك ويصور كل أحلام القادة العرب والعواصم العربية بل الشعوب العربية بأنها مجرد ممتلكات هالكة تذهب لدورات المياه أو لمكبات الحطام أو للمقابر يسخر، من أمة لا تقدم للعالم إلا ماتشتهي وتشتري دون منظومة علمية أو حتي نسق أخلاقي.
القصيدة إختصرت مقومات العالم العربي الراهن في قائمة من المصنوعات والمستهلكات العصرية والمطاعم والسيارات والعطور والأحذية والاكسسوارات وأدوات القمع والتكبيل. دعونا نستمتع بهذه القائمة التي تشكل قوام هذه القطعة الأدبية المتمردة، وبعد أن تنهوا مشوار المتعة والإنبهار والدهشة في نص (مقومات) أرجو منك عزيزي القارئ أن تنتقل من الحالة الإستهلاكية التي تعيشها العواصم العربية إلى الحالة الاستعباطية التي تعيشها الخرطوم من الإنتظار المستحيل من الحالة الانتقالية العبثية إلى حالة الأختيار والحريات والصندوق الذي يدعو ويأمر الكثير من المتكبرين والأدعياء إلى ساحة التواضع المر، وعلى هذه الشاكلة أرجو من الأخوة الشعراء أن يرسلوا لنا قصيدة (مقومات) السودانية على مقاس وصف الجنسية والجواز طولها ستة أقدام وخمسة بوصات وعيونها عسلية.
(نص البرغوثي) الذي أغرانا للكتابة والتعليق:
الكوكاكولا، تشيزمانهاتن، جنرال موتورز،
كريستيان ديور، ماكدونالدز، شل،
دايناستي، هيلتون انترناشينال، سانجام،
كنتاكي فرايد تشكن، الغاز المسيل للدموع
والهراوات، والمباحث، . . .
قال ابن خلدون: هذه مقومات الدولة عند العرب
(انتهى).
تري ماهي مقومات الدولة عند الأفارقة والسودانيين؟ وقديماً كان الإستهلاك وحدة هو الذي يضيع المال العربي الحاضر والمستقبلي ورصيد الأجيال القادمة أما الآن فقد أصبح المال العربي يضيع في جيوب كبير الروم ترامب وأسرته وهو يضع البلايين من أموال هذه الأمة المنكوبة وأنفاس مسدسة في أصداق الحكام والجماهير والأيادي والعقول المغلولة. هذه دعوة لبريد البرغوثي لكتابة النص الجديد بعد هذا الملحق.
* كلمات غائرة في بحور المعاني
هناك بعض المفردات والعبارات التي تبقى في النفس وتصلح للإستدعاء والتأسي والتعازي والسباحة عميقاً في بحور المعاني ومنها عبارة سيدنا أبوبكر الصديق المحب للمصطفى صلى الله عليه وسلم صاحبه أولاً ورسوله ثانياً وحبيبه ثالثاً قال: (شرب رسول الله فأرتويت) ويالها من عبارة وياله من حب رباني وإنساني طليق، وقالوا في الأثر أن الفاروق رضي الله عنه الخليفة الثاني الشهيد أنه لقي يوماً الصحابي الجليل موسى بن عبيد الله يتسوق في سوق المدنية وقد حمل لفافة صغيرة فسأله الفاروق ما هذه يا موسى فرد الصحابي أبن عبيد الله قائلاً: لحم يا أمير المؤمنين إشتهيت فأشتريت. فرد عليه الفاروق الذي كان يرى أن التزيد حتى في الحلال إثم ومنقصة للكبار. فرد عليه ثكلتك أمك يا موسى أكلما أشتهيت أشتريت. قال أن الصحابي الجليل أصبح بعدها لا تألف نفسه اللحم وهو يرى الفقراء يشتاقون لكسرة الخبز ومن هنا بدأت مسيرة النباتيين.