وظل تكرار المعاني في حق العارفين أبدًا جديدًا

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

وظل تكرار المعاني في حق العارفين أبدًا جديدًا

(1)
هاتفني أحد الأخوة الإعلاميين يعمل في مؤسسة كبرى بدولة قطر وفي قلب دوحة العرب طالبًا مني أن أسعفه بأبيات تشابه حب واحترام القيادة القطرية عبر الأب المؤسس والإبن الفياض بالخير تميم بن حمد والشعب القطري قاطبة للشعب السوداني. وأضاف إني قد رأيتهم رأي العين يفرحون لفرحنا ويتألمون لألمنا والمخبوء من كرمهم تجاه السودان والسودانيين أكبر بكثير مما يقال في الإعلام بالخرطوم وبالدوحة وهي عادة وموهبة يعرفها الكرام من الزعماء والمصلحين. هزتني كلمات الرجل المسربلة بالحب والمذهبة بالامتنان الطيب، فجاءت في خاطري أبيات شاعر النيل تلك الأبيات التي تشابه هذا الشعب الحر والطليق بأفعاله المباركات وجهده المفاض لصالح العرب والمسلمين وما جاورهم من أهل الكتاب والمقيد والسجين بالفضائل حيث يشقى بالجهاد فيها ويتنعم الآخرون الشاكر منهم والناكر. وهي من الأبيات التي يستدل بها أهل المعرفة والعرفان:

نَعِمنَ بِنَفسي وَأَشقَينَني
فَيا لَيتَهُنَّ وَيا لَيتَني
خِلالٌ نَزَلنَ بِخِصبِ النُفوسِ
فَرَوَّينَهُنَّ وَأَظمَأنَني
تَعَوَّدنَ مِنّي إِباءَ الكَريمِ
وَصَبرَ الحَليمِ وَتيهَ الغَني
وَعَوَّدتُهُنَّ نِزالَ الخُطوبِ
فَما يَنثَنينَ وَما أَنثَني
إِذا ما لَهَوتُ بِلَيلِ الشَبابِ
أَهَبنَ بِعَزمي فَنَبَّهنَني
فَما زِلتُ أَمرَحُ في قَدِّهِنَّ
وَيَمرَحنَ مِنّي بِرَوضٍ جَني
إِلى أَن تَوَلّى زَمانُ الشَبابِ
وَأَوشَكَ عودِيَ أَن يَنحَني
فَيا نَفسُ إِن كُنتِ لا توقِنينَ
بِمَعقودِ أَمرِكِ فَاِستَيقِني
فَهَذي الفَضيلَةُ سِجنُ النُفوسِ
وَأَنتِ الجَديرَةُ أَن تُسجَني
فَلا تَسأَليني مَتى تَنقَضي
لَيالي الإِسارِ وَلا تَحزَني

وختمت قولي له ضاحكا: أما إذا أردت لسان حال أبي تمام في تميم وأبيه وشعبه فلهذا مقام آخر.
وأفترقنا وبعيني المنى، غالها الدمع وما أبصرت شيئاً. رحم الله صديق مدثر ورحم الله الكابلي ورحم الله أيام السودان ولياليه الزاهيات وكل عيد والعرب والسمر والعجم والبربر وما جاورهم من أهل السلطان الأكبر بألف خير.

(2)
* قال أحد المغنين الشباب لطالما سمعت عن الورشة الثقافية وكيف تصنع المطرب المستنير الناضج فقصدت يوماً البروفيسور علي المك وكان جارنا وكان في رفقته يومها الموسيقار برعي محمد دفع الله وعبد العزيز محمد داؤود.
فأخبرته عن طلبي فتهلل وقال لي لقد وصلت أصلح الله بالك. وأمر برعي فشد الأوتار وأقترح على المنشد أبيات المولهين:

ياذا الذي أنس الفؤاد بذكره
أنت الذي ما إن سواه أريد
تفنى الليالي والزمان بأسره
وهواك غضٌّ في الفؤاد جديد

فأنشدها عبد العزيز حتى بكى المجلس وزاد عليها:

أعميت عيني عن الدنيا وزينتها
فأنت والروح شئ غير مفترق
إذا ذكرتك وافى مقلتي أرق
من أول الليل حتى مطلع الفلق
وما تطابقت الأجفان عن سنة
إلا وإنك بين الجفن والحدق

قال المغني الشاب: وعلى جمال ما سمعت وحذقت لساعات يومها صعب علي المشوار فقاطعت المجلس الجاد والكدح في سبيل التجويد. وفي ذات يوم قابلني بروف علي بعد فترة في (بيت لعبة) وأنا أغني (مبروك عليك الليلة يا نعومة يا حليل ناس ديك الزمان بجونا) ورغم اجتهادي فإن الناس لم تأبه لي، النساء يتفاخرن بالقطيعة والرجال يبددون الشتاء بالطعام.
فحكي لي القصة الشهيرة يا ابني في أحد الأيام قابلت راقصة مصرية درجة عاشرة القاص والكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ يقود سيارته الفيات الصغيرة (المكعكعة) في أحد شوارع القاهرة فأنزلت زجاج سيارتها المرسيدس (الآخر صرعة) وقالت بصوت فاجر وساخر يا أستاذ نجيب أهو دا الفرق ما بين الأدب وقلة الأدب.. وأغلقت الزجاج الأوتوماتيك لكن ضحكتها الصادمة المجلجلة ضربت المسافة ما بين السيدة زينب والمقطم وما زال صداها يتردد في الراهن الثقافي العربي (المضروب)!.
(3)
* ومن لطائف حكايات خالنا الراحل (شيخ الحيران) الشريف الطاهر طه في أمر الصالحين ما يرويه عن الشيخ أبي حمزة الخراساني الذي أكمل حجه وحين خرج سقط في بئر فأبى أن يستغيث الناس فلما استتمم خاطره على هذا حتى مر رجلان برأس البئر فأغلقاه حتى لا يقع فيه أحد حسب حجتهم قال الشيخ هممت أن أصيح ثم قلت في نفسي والله لا أصيح أدعو من هما أقرب منهما سكنت وسكت.. فبينما أنا بعد ساعة إذا بشيء جاء يهمهم على قمة البئر فكشف عن رأس البئر ورمى حبلاً وكأني به يقول تعلق به ففعلت فصار يشد حتى صعدت فإذا هو (سبع) فمر وهتف بي صوت هاتف يا أبا حمزة أليس نحن الذين نجيناك من التلف بالتلف فغادرت متعجباً وأنا أقول:
نهاني حيائي منك أن أكشف الغطا
وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
تلطفت في أمري فأبديت شاهدي
إلي غائبي واللطف يعرف باللطف
تراءيت لي بالغيب حتى كأنما
تبشرني في الغيب أنك في الكف
اراك وبي من هيبتي لك وحشة
فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفه
وذا عجب كون الحياة مع الحتف

ومما يتعرض له أهل الصحافة والإعلام من الطلبات رجاء بعض الأحبة أن نسمي لهم (المواليد) من صبيان وصبايا.
وقد سميت لأحدهم مولودته (باهية) وقد فعل وطالبني فقط بمذكرة تفسيرية قلت له حكى صاحب روض الرياحين في سفره (أن امرأة من المتعبدات يقال لها باهية لما اشرفت على الموت رفعت رأسها إلى السماء وقالت: يا ذخري وذخيرتي ومن عليه اعتمادي في حياتي ومماتي، لا تخذلني عند الموت، ولا توحشني في قبري، فلما ماتت كان لها ولد يأتي قبرها في كل ليلة جمعة ويوم جمعة، ويقرأ عند قبرها شيئاً من القرآن ويدعو لها ويستغفر لها ولأهل المقابر، قال: فرأيتها في المنام، فسلمت عليها وقلت لها: يا أمّاه كيف أنت وكيف حالك؟ فقالت: يا بني إن للموت كربة شديدة، وأنا بحمد الله في برزخ مفروش فيه الريحان، وموسد فيه السندس والاستبرق إلى يوم القيامة، فقلت: ألك حاجة؟ قالت: نعم يا بني لا تدع ما كنت عليه من زيارتنا والقراءة والدعاء لنا، فإني يا بني أُسرُّ بمجيئك إلينا ليلة الجمعة ويوم الجمعة إذا أقبلت يقول لي الموتى: يا باهية هذا ابنك قد أقبل، فأسر بذلك، ويسر من حولي من الموتى، قال: فكنت أزورها في كل ليلة جمعة ويومها، وأقرأ عندها شيئاً من القرآن وأقول: آنس الله وحشتكم، ورحم غربتكم، وتجاوز عن سيئاتكم، وزاد بعضهم: وتقبل حسناتكم، قال: فبينما أنا ذات ليلة نائم إذا بخلق كثير قد جاؤوني فقلت: من أنتم وما حاجاتكم؟ قالوا: نحن أهل المقابر جئناك نشكرك ونسألك أن لا تقطعنا من تلك القراءة والدعوات فما زلت أقرأ لهم وأدعو لهم بهنّ كل ليلة جمعة ويومها.