ود الرضي .. شاعر الوصف البديع

بقلم: صلاح الدين عبد الحفيظ
ولد الشاعر محمد الرضي في العام (1884م) بقرية العيلفون من أب ينتسب إلى قبيلة العسيلات (رفاعة) وأم تنتسب إلى أسرة الشيخ إدريس ود الأرباب بالعيلفون. نشأ وترعرع بالعيلفون وما أن بلغ السابعة من عمره حتى أرسله والده إلى أم ضوًا بان فحفظ القرآن الكريم بخلوة الشيخ العبيد ود بدر علي يد الخليفة حسب الرسول ودبدر.
قرض الشعر وهو طالب في الخلوة ولم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره وقد تأثر في بدايته الشعرية بالنمط الشعبي المسمى (بالدوبيت) نظمه متغزلآ وواعظآ ومرسلًا بعض الحكم. لكن عبقريته الشعرية ونبوغه المبكر جعلاه يختط لنفسه أسلوبًا جديدًا ونمطًا مغايرًا للنمط السائد خاصة في مجال الشعر الغنائى، إذ كان الطنابرة (المغنون) يتغنون بالبيت الواحد أو البيتين مع التكرار معتمدين على الإيقاع الصاخب بواسطة المثلثات والعصي والصفقة بالإضافة للأصوات الصاخبة الصادرة من الحناجر القوية. كان ذلك في التقيل أو المتوسط أو الخفيف، فنظم ود الرضي القصائد الطوال فتلقفها الطنابرة وشدوا بها إبداعًا وتطريبًا، فذاع صيتها وبدأت بها شهرته (ود الرضي الغناي) وكانت أول قصائده في هذا المجال قصيدة (جاري)
ساعده ذكاؤه على حفظ القرآن الكريم في مدة وجيزة، ذهب بعدها يساعد والده في الزراعة (بالباجة) بمنطقة العسيلات وعمل بجانبه حتى تزوج وكان ذلك في ربيع 1903م (1323ه). كبر شاعرنا وكبرت معه مسؤولياته، فأخذ ينظر إلى الحياة نظرة رجل مسؤول وإلى المستقبل نظرة شاعر طموح لا يألو جهدًا في سبيل أن يتبوأ مكانة أسمى، ولم يرض طموحه عمله كمزارع صغير يعتمد فى زراعته على نجاح فصل الخريف فأخذ يتحين الفرص حتى لاحت له فرصة للعمل في خزان مكوار (سنار) حالة إنشائه في وظيفة رئيس طلب، فكان ذلك مفتاحًا لبعض ما تمنى، ووسيلة لمستقبل يرجى، وكان القدر له بالمرصاد وكأنه لم يرد له أن يهنأ فلم يطب له المقام إذ لم يجد مكوار كما تصور وخاصة إن طبيعة عمله تتطلب وجوده على إستمرار في مكان العمل بعيد عن الأحياء السكنية فعاش حياة موحشة إفتقد فيها لياليه السامرة وأهله وأحبائه فنظم يشكو الفراق:

من فارقتكم تهطل دموعي صبوبة
خفقان قلبي كالهبابة حين هبوا به
لا أخ لا صديق لا جلسة محبوبة
لا سر لا قريب لا جد و لا حبوبة

عانى من الشقاء ألوانًا، وذاق ومن معه صنوف العذاب ومرارة الغربة فبكى الفراق واشتاق المزار، فنذر نذر ضمته قصيدته (متى مزاري) وهو في غربته هذه وعذاباته تلك يعالج بالشعر مرارة الاغتراب، أتته رسالة من صديقه الحميم عباس ود كندورة، وفوطة من الكستور الجميل مليئة (بالكعك) هدية من أحبائه فأثرت في الشاعر قريحته الشعرية فكتب مخاطبًا عباس:

ياعباس شوقت قلبي وهن دموعي يصبن
يا (ع) تركتني وكأني ملقي في جبا
تذكاركم أيا (ع) بفاكهة وأبا

ويشده الشوق إلى أحبائه والحياة التي تركها تطلعًا إلى الأحسن ولم يجد سبيلًا ينفث به ما في صدره إلا أن يحمل رسائله ونفاثة صدر إلى الطير ويخصص سلام إلى الزوجة التي لم يهنأ بالعيش معاها سوى أيام معدودة:

يا طير إن مشيت سلم علي البنحبه
وخص بذلك ناس المقرط حبه
قول ليهم مكوار مجينا ولا رحب به
والبطيخ بعد ما ناكله بنقشر حبه

وهكذا عاش أيامه قلقًا لا يهدأ له بال ومغتربًا يرجو العودة إلى أهله وأحبائه وقضى على هذا الحال ما يقارب العامين عاد بعدهما على أجنحة من الشوق ولكنه لم يجد الأوضاع على ما يرام فكتب:

ما شقت بطاين رحيلك
بالوصوك بيهو شدي حليك
أبدًا مو جديد تركت نحيلك
كان ما بتختشي النختش لك

إتجه بعد فترة وجيزة من عودته من مكوار نحو المدينة وعمل فيها تاجرًا يبيع (القرع) وأخذ يتجول في العاصمة مرتديًا زيه الريفي (التوب) حتى عرف بين الشعراء فيما بعد بالعربي أب توب.
تعرف أول ما تعرف بالشاعر أحمد حسين العمرابي الذي كان يعمل ترزيًا في دكان والده ونمت بينهما صداقة متينة ثم تعرف بالعبادي وامتد التعارف إلى بقية الشعراء وأخذ يؤم مجالسهم ومنتدياتهم الأدبية والشعرية التي كانت تقام في كثير من الأحايين في دكان الفاضل الشيخ بالخرطوم أو قهوة حسن الخليفة أو دكان عباس رشوان بأمدرمان وغيرها. وكان كل شاعر يرغب في الانضمام إلى منتداهم هذا، عليه بالخضوع لإمتحان يضعه له الشعراء فتعرض ود الرضي لهذا الامتحان فاجتازه بجدارة فأرادوا أن يعجزوه فكتبوا له مربعًا من الشعر ليجاريه (يغطيه) :

عكت جات تميل من الأرض خزازه
زينت الخلقة داب ما حسبن بزازه
دارت ليها داروهو الفي الرزم عام زازه
شفنا الدقة والزرزور فصل حزازه

فكتب ود الرضي على التو:

قادة غزير زراقه زاولنا جيده قزازه
صارت تعترينا جنان وصرنا جزازه
صرنا كزي زوال والقلب ذاب واتزازه
زارت الزام زبرجده من فميله عزازه

فهالتهم شاعريته وسرعة خاطره فانخرط من وقتها في عقد الشعراء ومن الطبيعي أن ينسجم معهم وتصبح له مكانة بارزة بينهم لفتت أنظار المطربين فغنى له سرور (دمع المحاجر قرن) فكانت أول قصيدة ترنم بها سرور لود الرضي ثم متى مزاري.. ودمت أوالي وغيرهن.. أما أول قصيدة تغنى بها الفنان عبدالله الماحي لود الرضي هي قصيدة (حبابه ال للكدر زايل) ثم (أحرموني) و(البريق العاتم سماه) وغبرهن كما غنى له إبراهيم عبد الجليل قصيدة (يلوحن لي حماماتن) ومن ثم اشتهر ود الرضى بالرميات ولا يكاد ينافسه فيها أحد من الشعراء. وكانت تجد إستحسانًا من زملائه الشعراء.
حمل ود الرضي مع زملائه الشعراء لواء الأغنية السودانية وثبتوا لها أساسا متينًا راسخًا واتجهوا بالشعر لخدمة المجتمع السوداني وقضايا التعليم والقضايا الوطنية وكانوا يتنافسون فيما بينهم للأحسن لذا كان انتاجهم جيدًا مجودًا لا تشيخه الأيام ولا ينال منه المغرضون.
عمل ود الرضي في الري المصري بالشجرة في وظيفة (كاتب) فإلتقي هناك بالشاعر عبيد عبد الرحمن وقد كانت تربطه وعبيد علاقة أخوية من قبل فعاشا معا دنيا العمل ودنيا الشعر وأماسيه الحالمة المتجددة لم يستمر في عمله بالري المصري وقتًا طويلًا فتركه ليعمل في الوابورات بالخرطوم بحري في وظيفة (مخزنجي) وفي إقامته ببحري إلتقى الشاعر مصطفى بطران وإنضما سويًا إلى نادي (المهويين) الذي كان متهمًا بنشاطه السياسي ضد الاستعمار.. وزملاء ود الرضي والعاملون بالوابورات يحكون عنه الكثير من النوادر والملح والطرائف وكيف كان وبطران يقومان بتأليف المسرحيات الشعرية ويشتركان في أداء أدوارها في المسارح المدرسية ومسارح الأندية ببحري لأغراض خيرية واجتماعية ومما روى زملاء ود الرضي عنه عقاب المفتش الانجليزي له بخصم يوم من راتبه الشهري لغيابه عن العمل فكتب:

يوم التلات يوما كعب
وأمر من ملح القعب
والله فرق اليوم صعب

دفعته روحه المتمردة التي تعشق التغيير وتهوى التنقل فترك الوابورات وآثر العودة إلى العمل في الزراعة أحيانًا يزرع مع والده (الباجة) وأحيانًا أخرى يطوف على قرى الجزيرة مزراعًا بالسديرة والسريحة وخلافهما ثم يلجأ إلى عالم التجارة فيفتح دكانًا (كنتين) بأم ضوًا بان وما لبث أن أغلقه ليفتح آخر بالمسعودية لذا نجده في حياته كثير من التنقل والأسفار بين قرى الجزيرة وقرى شرق النيل وأحياء العاصمة وتكاد تجد في كل قرية من تلك القرى أثرًا لود الرضي ونادرة تحكي عنه أو قصة شيقة تروى أو حكمة سايرة تضرب بها الأمثال (ود الرضي قال) وخاصة إنه كان يتمتع بخفة الظل وسرعة البديهة وكثيرًا ما يرسل الشعر إرتجالًا.
عاش ودالرضي في دنيا الأحلام والأماني يتغنى للعفة والنقاء. يعيش أيامًا حالمات متنقلًا بين أهله بالعيلفون وأم تكالي وأم ضوًا بان والدبيبة وأصدقائه بالخرطوم وأمدرمان رحل إلى أم ضوًا بان .
أدرك ود الرضي موجة التحرر الوطني حاديًا وشاديًا فإشترك في الثورة ضد الوضع الإستعماري شأنه شأن إخوانه الشعراء أمثال الخليل دوى صوته حادًا وجهيرًا ومبينًا وقصيدته (ياحليل الجيش الرحل) ذات أثر في الثورة تغنى بها الثوار وحفظها المتظاهرون فحركت المشاعر الوطنية عند رجوع الجيش المصري من السودان إبان ثورة اللواء الأبيض عام 1924م.
والدارس لشعر ود الرضي يجده ينطلق من تراث قومه المتمثل في العقيدة والأخلاق ويتجلى ذلك واضحًا في شعره عمومًا من غزل ومدح ورثاء وهجاء ساعدته في ذلك تربيته الدينية ونشأته الريفية وانطلاقه منها ويلاحظ أيضًا أثرًا يبدأ ضئيلًا ثم لا يلبث أن يشتد ويقوى ويكون له صدى عميق الرنين في شعره ذلك هو الأثر الإسلامي فكثير من تعابيره الشعرية تكاد تكون صوفية المنشأ.
فالدراسة الدينية التي تلقاها في الخلوة وعكف على تنميتها والحياة التي عاشها في الظلال الصوفية لازمته في نظمه وظهرت سماتها بارزة وواضحة في معظم قصائده مثال ذلك.

أحرموني ولا تحرموني سنة الإسلام السلام
امتي حرمك أدخل حماه قالي مذهب مالك حماه
طغيت عندما امتطيته والقرين رافعته
فتدبرت (كلا ان) خشية دفعته

وحتى في قصائده التي نظمها في الستينات نجد ذلك الأثر

أحاول وطرفي يتخاذل وأرجع أمجد الصانع