عباس حبيب الله .. سَحَّارة الذِّكْرَيات

الأُبيض عَرُوس الرِّمَال .. حِينمَا تَشِعُّ ذِكْراها …

عباس حبيب الله .. سَحَّارة الذِّكْرَيات

بقلم: طاهر محمد علي طاهر

والسحارةُ صندوق من الخشب مزدان بالألوان، توضع فيه الأشياء المراد تخزينها مثل الكتب أو الصور أو بعض الأغراض المنزلية، كان بمثابة دولاب للعرائس، وعباس حبيب الله كان ساحر ذاك الزمان، أي قبل أكثر من خمسين عاماً، يعشق مهنة التصاوير، يجملها بخياله ويهديها للناس لتدسها في سحارة كل بيت.. وبعد مضي كل تلك السنوات هاهم عشاق الصور الفوتغرافية يستعرضونها، ليتأملون مظاهر الحياة في السبعينيات، يشيرون إليها بالتعليق هنا وهناك، صور الأمهات والأباء والأجداد التي تجسد الموضة والزّي، تجسد وجوه النسوة اللائي كنّ جميلات بلا مساحيق، والرجال في مظهرهم السودانوي الأنيق، والشباب في تجلياته بالشارلستون والخنفس و”تحرمني منك”، كما تتناول الصور جانباً من احتفالات حكومية رسمية تمثل لقاءات الرئيس نميري مع الجماهير في ربوع كردفان، وزيارة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة إلى مدينة الأبيض 1972م، وصور أخرى ترصد حركة الحياة اليومية، سيد الدكان وزبائنه، وونسة في حوش مرشوش أو جلسة على ضفاف المزاج تحت ضل العصرية، إحدى الجميلات تمارس زينتها أمام المرآة، والجدّ يلاعب حفيده وهو بين أحضانه، وأسرة تحتفل بعيد ميلاد أحد أبنائها، وصورة لعدد من النسوة يتحلقن حول “صيجان اللحمة” في مناسبة عرس.. غالبية تلك الصور كان مهندسها عباس حبيب الله، الذي تتم الإشارة إليه على استحياء لغياب السيرة الذاتية وضعف التوثيق، وإن كان البعض يثمن عالياً براعته في التقاط الصور أو اختيار الزوايا أو صناعة المشهد.
عباس حبيب الله عبداللطيف كان نسيجًا لوحده وعالماً من الدهشة والإبداع فهو صاحب مزاج فني، وعين فاحصة لكل مشهد جدير بالتصوير، قضى حياته بين الحلّال والفرقان، مثل المستكشفين والرحالة الأوائل، لايستنكف أن يصعد قوز رملة، أو تبلدية لإلتقاط مشهد يرضي غروره، أو يسافر على ظهر لوري ليتجول بعدسته في بوادي دار حامد والمجانين والكبابيش، ليخرج في النهاية بصيد ثمين من “البورتريهات”.
كنّا نراه يحمل على كتفيه مجموعة من الكاميرات المعلّقة، والعدسات والفلاشات، وفي يده حقيبة صغيرة سوداء تصاحبه في كل مشاويره، كنّا نسميه بالمصور المتجول، ونصفه بالمبدع المجنون لأنه مختلف جملة وتفصيلاً عن فناني مدينة الأبيض، إذ كان مبهراً بفنه وروائعه، فهو ممن أفسحوا للحسن نطاقاً، وخلقوا شتى البشاشات وأنواع الطلاقة.
مازلنا نتذكر كاميرته العتيقة “رولي فليكس”، التي التقطت آلاف الصور الرائعة التي تغطي حياة بأكملها، صور ساحرة ذات طابع جمالي لا تُقدّر بثمن.
في جميع المعارض الرسمية التي تصاحب المناسبات نشاهد صور القرويات الجميلات، اللائي ينضح جمالهن بالسحر والطبيعة الربانية، وقد حدثنا الناصر قريب الله عن الكاهلية في دار أم بادر، وهي تجني ثمر السنط في إنفراد الغزال، كان وصفاً لم نشهده إلاّ عبر لقطات عباس الموغلة في الرومانسية والخيال الموحيّ، كالذي يقطف من مختلف الأزهار باقة.
وقد أتاحت له صولاته وجولاته في بادية كردفان أجواء هادئة انطلق فيها بحرية فتعددت خياراته، وحتى عندما يعود للمدينة تجده يسجل يومياً إشراقات الحياة، ويومها كانت الأبيض، مدينة لها مسارحها ومكتباتها وصحيفتها وإذاعتها ومحطة تلفزيونها، ومصوريها ومثقفيها، كان فتاح مغنيها والقرشي شاديها، والبان جديد دوحتها وملتقى أنسها وأفراحها، كان الناس يحنون لرمية نص الليل، وصفقة المردوم، ونغيم نقارة دقوها، على صوت البلوم عبدالرحمن عبد الله، و”شوف جمال السودان.. في بلدنا كردفان” على صوت إبراهيم موسى أبا..
كان للمساء بهجته وطعمه، وللقيا حلاوتها، ثم تلاشت الصور الحبيبة والسنين الباسمة، وليلات السعد بعد أن رحل الشادي والحادي، وصارت عروس الرمال مزقاً من ذكريات.
ولد عباس حبيب الله في الأول من يناير عام 1950، في مدينة نيالا، التي درس فيها حتى الوسطى، مختزناً في ذاكرته طبيعتها الساحرة، ولوحاتها الجمالية، وكان شغوفاً بالتصوير منذ صغره، سرعان ماعاد إلى الأبيض أرض أجداده، فمنزل والده حبيب الله عبد اللطيف السليماني في الشويحات، ومنزل جدّه لأمه أسطى محمد حسن وهبه في الربع الثاني، وتمتد علاقة الأسرة مع حيشان الأبيض الكبيرة، فهم أبناء عمومة مع آل عبده موسى، وأبناء خال وعمومة مع آل عمر أحمد عُقد، وجدّه العمدة إبراهيم رمضان من جهة والدته، وكثيرون من أهله وأقاربه عبد الله أبوشنب، وبدوي عوض، وقريب آل حربي من جهة والدتهم الحاجة وداد، وتشير المصادر إلى أن الأسرة تمتد جذورها إلى أفغانستان، كما أن جدّه السليماني جاء من السعودية، أما جذور والدته التومة أسطى محمد فهم أتراك. وله العديد من الاخوة والأخوات منهم عبداللطيف حبيب الله “الشاعر”، وشمس الدين، وناجي، وحاتم، أما الأخوات فهنّ سعدية، وإنعام، وسهام، وشامة، ونجوى، والراحلة ليلى حبيب الله.
عقب عودته من نيالا إلى الأبيض التحق في العام 1967م بوزارة الاستعلامات والعمل موظفاً بقسم التصوير الفوتغرافي، ولعل اسم الوزارة تم تعديله لأكثر من مرة، وارتبطت الثقافة والإعلام في أول عهدها أيام الإنجليز بتأسيس مكتب الاتصال العام التابع للسكرتير الاداري لحكومة السودان في العام 1930م، وأدخلت ضمنه أنشطة السينما المتجولة، وقسم التصوير الفوتوغرافي في العام 1940م ثم قسم الانتاج السينمائي، ليتم تعديل اسم الوزارة على أيام الفريق عبود إلى وزارة الاستعلامات والعمل، ومن ثم إلى وزارة الإعلام والعمل في نوفمبر 1964م.
أُبتعثَ عباس لتلقي دورة تدريبية في الخرطوم على أيام مايو حيث كان وقتها الرئيس جعفر نميري من أشد المعجبين بالتصوير الفوتوغرافي ومن هواة جمع الأعمال الفنية في السبعينيات وأنفق أموالاً طائلة أسهمت في تطوير الوزارة التي قامت بتوثيق كل مايتعلق بالنشاط السياسي، والأشغال العامة، والإجراءات الحكومية، والعروض العسكرية، المهرجانات، صناعة الفنون والحرف، الأسواق، هجرات البدو، ولعل هذه الفترة توصف بالعصر الذهبي للتصوير الفوتوغرافي السوداني، إذ أصبحت صور الاستوديو ممارسة يومية، وأسلوب حياة توفر للشباب سانحة لالتقاط الصور الشخصية، والتذكارية.
بعد أن أكمل عباس تدريبه عاد إلى الأبيض ليكون مصوراً ضمن إدارة الثقافة والإعلام، وتم تزويد كل منطقة بمكتب ومعمل صور على أحدث طراز، وجرى تحرير الصور وتوثيقها وفهرستها وأرشفتها بعناية في دفاتر ملاحظات كبيرة، ومن ثم انتقل إلى أمانة الحكومة ليصبح حبيب الله المصور الرسمي لإقليم كردفان، ليكون شاهداً على كل المناسبات الرسمية للمسؤولين والمحافظين وحكام الإقليم منذ الفاتح بشارة، مصطفى محمود، محمد علي المرضي، وكل الولاة الذين تعاقبوا على الولاية فيصل مدني مختار، الحسيني عبدالكريم، محمد الحسن الأمين، معتصم ميرغني حسين زاكي الدين، إبراهيم السنوسي، فيصل حسن إبراهيم، وأحمد هارون، لكنه لم يكن أسيراً للوظيفة العمومية، يؤدى واجبه المناط به ومن ثم يحرر عدسته لتخرج لتصوير الطبيعة، الأسواق، الشوارع، الميادين، الحفلات، وتصوير العائلة الممتدة والجيران، بحب وعشق ووله.
الصور التي التقطها عباس خلال مسيرته أدهشت الكثيرين لكونها تعبر عن حقبة بعينها، حيث يقول المصور الفرنسي كلود إيفرني : “ما زلت مفتونًا بالصور التي تم إنتاجها في السبعينيات على يد عدد من المصورين، لقد سلطوا الضوء على هذه الفترة غير المعروفة من الحرية الهائلة، عندما كانت جلسة التصوير جزءًا من حفل بهيج” ويضيف بأن عباس حبيب الله كان مفتوناً بالجمال، وفي الغالب يستخدم الفلاش في كل الحالات ليلاً ونهاراً، ينقش لقاءاته العديدة على هواه الخاص، ويستخرج منها خياله الأفلاطوني بممارسة ساحرة، وكأنه يخرج مسرحية عبر التصوير الفوتوغرافي، ويعيد إحياء الشخوص، يسجل الأجواء العادية بدافع الحب مثل الاحتفالات، والأزياء الجميلة أمام العدسة، إنه يكشف عن الحياة اليومية العادية، ولذلك تختفي الجماليات الإلزامية.
واعترافاً بما قام به عباس وغيره من رواد حقبة السبعينيات قامت مؤسسات أوروبية عديدة بالحصول على مجموعات من الصور “الأبيض والأسود مثل متحف كواي بيرنلي “Quai Branly” في باريس الذي حصل على مجموعة من أعمال الرشيد مهدي وعباس حبيب الله، كما تم تضمين مجموعة من أعماله في كتب عن تاريخ التصوير الفوتوغرافي في السودان، وشارك عباس بدعوة من تلك الجمعيات في عدة معارض في فرنسا لتفتح له تلك المشاركة الإنضمام إلى رابطة المصورين المحترفين في العالم، وحاز على جائزة في بينالي باماكو – مالي 2005
أحيل عباس إلى المعاش حين بلوغه السن القانونية ليتقاعد بالدرجة الوظيفية الخامسة في العام 2012، وظل يمارس هوايته في التصوير بعيداً عن الوظيفة حتى رحيله في العام 2020م لتفقد الأبيض واحداً من أبرع المصورين الذين حفظوا تاريخها السياسي والثقافي والإجتماعي.